فلما كانت الليلة ٩٨٦
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن عبد الله بن فاضل قال لأخويه: أبشرا بالهنا والسرور. فلما سمعا هذا الكلام صارا يعويان مثل عُواء الكلاب، ويمرِّغان خدودهما على أقدامه كأنهما يدعوان له ويتواضعان بين يديه، فحزن عليها وصار يملِّس بيده على ظهورهما إلى أن جاء وقت العشاء، فلما وضعوا السفرة قال لهما: اجلسا. فجلسا يأكلان معه على السفرة، فصار أعوانه باهتين يتعجَّبون من أكله مع الكلاب ويقولون: هل هو مجنون أو مختل العقل؟! كيف يأكل نائب مدينة البصرة مع الكلاب وهو أكبر من وزيرٍ؟! أَمَا يعلم أن الكلب نجسٌ؟! وصاروا ينظرون إلى الكلبين وهما يأكلان معه أكل الحشمة، ولا يعلمون أنهما أخواه، وما زالوا يتفرجون على عبد الله والكلبين حتى فرغوا من الأكل. ثم إن عبد الله غسل يديه فمدَّ الكلبان أيديهما وصارا يغسلان، وكل مَن كان واقفًا صار يضحك ويتعجَّب ويقولون لبعضهم: عمرنا ما رأينا الكلاب تأكل وتغسل أيديها بعد أكل الطعام! ثم إنهما جلسا على المراتب بجنب عبد الله بن فاضل، ولم يقدر أحدٌ أن يسأله عن ذلك، واستمر الأمر هكذا إلى نصف الليل، ثم صرف الخدام وناموا ونام كل كلبٍ على سريرٍ، وصار الخدام يقولون لبعضهم: إنه نام ونام معه الكلبان! وبعضهم يقول: حيث أكل مع الكلاب على السفرة فلا بأس إذا ناموا معه، وما هذا إلا حال المجانين! ثم إنهم لم يأكلوا مما بقي في السفرة من الطعام شيئًا، وقالوا: كيف نأكل فضلة الكلاب؟! ثم أخذوا السفرة بما فيها ورموها وقالوا: إنها نجسةً.
هذا ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر عبد الله بن فاضل، فإنه لم يشعر إلا والأرض قد انشقت وطلعت سعيدة وقالت: يا عبد الله، لأي شيءٍ ما ضربتهما في هذه الليلة؟ ولأي شيءٍ نزعتَ الأغلال من أعناقهما؟ هل فعلتَ ذلك عنادًا لي واستخفافًا بأمري؟ ولكن أنا الآن أضربك وأسحرك كلبًا مثلهما. فقال لها: يا سيدتي، أقسمتُ عليك بالنقش الذي على خاتم سليمان بن داود عليهما السلام أن تحلمي عليَّ حتى أخبرك بالسبب، ومهما أردتِه بي فافعليه. فقالت له: أخبرني. فقال لها: أمَّا سبب عدم ضربهما، فإن ملك الإنس الخليفة أمير المؤمنين هارون الرشيد أمرني ألَّا أضربهما في هذه الليلة، وقد أخذ عليَّ مواثيق وعهود ذلك، وهو يُقرِئُك السلام، وأعطاني مرسومًا بخط يده وأمرني أن أعطيك إياه، فامتثلتُ أمرَه وأطعتُه، وطاعة أمير المؤمنين واجبة، وها هو المرسوم فخذيه واقرئيه، وبعد ذلك افعلي مرادك. فقالت: هاتِه. فناوَلَها المرسوم ففتحته وقرأته، فرأت مكتوبًا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من ملك الإنس هارون الرشيد إلى بنت الملك الأحمر سعيدة. أما بعد، فإن هذا الرجل قد سامَحَ أخوَيْه وأسقَطَ حقَّه عنهما، وقد حكمتُ عليهما بالصلح، وإذا وقع الصلح ارتفع العقاب، فإن اعترضتمونا في أحكامنا اعترضناكم في أحكامكم، وخرقنا قانونكم، وإن امتثلتم أمرنا ونفَّذتم أحكامنا فإننا ننفِّذ أحكامكم. وقد حكمتُ عليكِ بعدم التعرُّض لهما، فإن كنتِ تؤمنين بالله ورسوله فعليك بطاعة ولي الأمر، وإن عفوتِ عنهما فأنا أجازيك بما يقدِّرني عليه ربي، وعلامة الطاعة أن ترفعي سحرك عن هذين الرجلين حتى يقابلاني في غدٍ خالصَيْن، وإنْ لم تخلِّصيهما فأنا أخلِّصهما قهرًا عنك بعون الله تعالى.» فلما قرأت ذلك الكتاب قالت: يا عبد الله، لا أفعل شيئًا حتى أذهب إلى أبي وأعرض عليه مرسوم ملك الإنس وأرجع إليك بالجواب بسرعةٍ. ثم أشارت بيدها إلى الأرض فانشقَّت ونزلت فيها، فلما ذهبت صار قلب عبد الله فرِحًا وقال: أعزَّ الله أمير المؤمنين.
ثم إن سعيدة دخلتْ على أبيها وأخبرته بالخبر، وعرضتْ عليه مرسوم أمير المؤمنين، فقبَّله ووضعه على رأسه، ثم قرأه وفهم ما فيه وقال: يا بنتي، إن أمر ملك الأنس علينا ماضٍ، وحكمه فينا نافذٌ، ولا نقدر أن نخالفه، فامضي إلى الرجلين وخلِّصِيهما في هذه الساعة، وقولي لهما: أنتما في شفاعة ملك الإنس. فإنه إنْ غضب علينا أهلكنا عن آخرنا، فلا تحملينا ما لا نطيق. فقالت له: يا أبتِ، إذا غضب علينا ملك الإنس فماذا يصنع بنا؟ فقال لها: يا بنتي، إنه يقدر علينا من وجوه؛ الأول: أنه من البشر، فهو مفضَّلٌ علينا، والثاني: أنه خليفة الله، والثالث: أنه مصرٌّ على ركعتَي الفجر، فلو اجتمعت عليه طوائف الجن من السبع أرضين لا يقدرون أن يصنعوا به مكروهًا، فإنه إنْ غضب علينا يصلِّي ركعتَي الفجر ويصيح علينا صيحةً واحدةً فنجتمع بين يدَيْه طائعين ونصير كالغنم بين يدي الجزار، إن شاء يأمرنا بالرحيل من أوطاننا إلى أرضٍ موحشةٍ لا نستطيع المكث فيها، وإن شاء هلاكَنا أمرنا بهلاك أنفسنا فيُهلِك بعضنا بعضًا. فنحن لا نقدر على مخالفة أمره، فإنْ خالفنا أمره أحرقنا جميعًا، وليس لنا مفرٌّ من بين يديه، وكذلك كل عبدٍ داوَمَ على ركعتَي الفجر، فإن حكمه نافذٌ فينا، فلا تتسبَّبي في هلاكنا من أجل رجلَيْن، بل امضي وخلِّصِيهما قبل أن يَحِيقَ بنا غضبُ أمير المؤمنين. فرجعت إلى عبد الله بن فاضل وأخبرته بما قال أبوها، وقالت له: قبِّلْ لنا أيادي أمير المؤمنين واطلب لنا رضاه. ثم إنها أخرجت الطاسة ووضعت فيها الماء وعزمت عليها وتكلَّمت بكلماتٍ لا تُفهَم، ثم رشَّتهما بالماء وقالت: اخرجَا من الصورة الكلبية إلى الصورة البشرية. فعادا بشرَيْن كما كانا أولًا، وانفكَّ عنهما رصد السحر وقالا: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. ثم إنهما وقعا على يد أخيهما وعلى رجلَيْه يقبِّلانهما ويطلبان منه السماح، فقال لهما: سامحاني أنتما. ثم إنهما تابا توبةً نصوحًا وقالا: قد غرَّنا إبليس اللعين وأغوانا الطمع، وربنا جازانا بما نستحقه، والعفو من شِيَم الكِرَام. وصارا يستعطفان أخاهما ويبكيان ويتندَّمان على ما وقع منهما. ثم إنه قال لهما: ما فعلتما بزوجتي التي جئتُ بها من مدينة الحجر؟ فقالوا: لمَّا أغوانا الشيطان ورميناك في البحر وقع الخلاف بيننا، وصار كلٌّ منا يقول: أنا أتزوَّج بها. فلما سمعتْ كلامنا ورأت اختلافنا وعرفت أننا رميناك في البحر طلعت من الخزنة وقالت: لا تختصما من أجلي، فإني لستُ لواحدٍ منكما، إن زوجي راح البحر وأنا أتبعه. ثم إنها رمت روحها في البحر وماتت. فقال: إنها ماتت شهيدةً، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم إنه بكى عليها بكاءً شديدًا، وقال لهما: لا يصحُّ منكما أن تفعلا معي هذه الفعال وتعدماني زوجتي. فقالا: إننا أخطأنا وربنا جازانا على فعلنا، وهذا شيء قدَّرَه الله علينا قبل أن يخلقنا. فقبِلَ عُذْرهما. ثم إن سعيدة قالت: أيفعلان معكَ كل هذه الفعال وأنت تعفو عنهما؟! فقال: يا أختي، مَن قدر وعفا كان أجره على الله. فقالت: خذ حذرك منهما؛ فإنهما خائنان. ثم ودَّعَتْه وانصرفت. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.