فلما كانت الليلة ٩٨٧
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن عبد الله لما حذَّرَتْه سعيدة من أخوَيْه ودَّعته وانصرفت إلى حال سبيلها، فبات عبد الله بقية تلك الليلة هو وأخواه على أكلٍ وشربٍ وبسطٍ وانشراح صدر. فلما أصبح الصباح أدخلهما الحمَّام، وعند خروجهما من الحمام ألبس كل واحدٍ منهما بدلةً تساوي جملةً من المال، ثم إنه طلب سفرة طعام، فقدَّموها بين يديه، فأكل هو وأخواه، فلما نظرهما الخدَّام وعرفوا أنهما أخواه سلموا عليهما وقالوا للأمير عبد الله: يا مولانا، هنَّاك الله باجتماعك على أخويك العزيزين، وأين كانا في هذه المدة؟ فقال لهم: هما اللذان رأيتموهما في صورة كلبين، والحمد لله الذي خلَّصهما من السجن والعذاب الأليم. ثم إنه أخذهما وتوجَّه إلى ديوان الخليفة هارون الرشيد، ودخل بهما عليه وقبَّلَ الأرض بين يديه، ودعا له بدوام العز والنِّعَم، وإزالة البؤس والنِّقَم. فقال له الخليفة: مرحبًا بك يا أمير عبد الله، أخبرني بما جرى لك. فقال: يا أمير المؤمنين، أعزَّ الله قَدْرك، إني لما أخذت أخويَّ وذهبت بهما إلى منزلي اطمأننت عليهما بسببك؛ حيث تكفَّلتَ بخلاصهما، وقلت في نفسي: إن الملوك لا يعجزون عن أمرٍ يجتهدون فيه؛ فإن العناية تساعدهم. ثم نزعت الأغلال من رقابهما وتوكَّلت على الله، وأكلت أنا وإياهما على السفرة، فلما رآني أتباعي آكل معهما وهما في صورة كلبين استخفُّوا عقلي، وقالوا لبعضهم: لعله مجنونٌ، كيف يأكل نائب البصرة مع الكلاب وهو أكبر من الوزير؟! ورموا ما فضل من السفرة وقالوا: لا نأكل ما بقي من الكلاب. وصاروا يسفِّهون رأيي، وأنا أسمع كلامهم ولا أرد عليهم جوابًا لعدم معرفتهم أنهما أخواي، ثم صرفتهم. وعندما جاء وقت النوم وطلبت النوم فما أشعر إلا والأرض قد انشقت وخرجت سعيدة بنت الملك الأحمر وهي غضبانةٌ عليَّ وعيناها مثل النار … ثم أخبر الخليفة بجميع ما وقع منها ومن أبيها، وكيف أخرجَتْهما من الصورة الكلبية إلى الصورة البشرية، ثم قال: وها هما بين يديك يا أمير المؤمنين. فالتفت الخليفة فرآهما شابين كالقمرين، فقال الخليفة: جزاك الله عني خيرًا يا عبد الله حيث أعلمتني بفائدةٍ ما كنتُ أعلمها، إن شاء الله لا أترك صلاةَ هاتين الركعتين قبل طلوع الفجر ما دمتُ حيًّا. ثم إنه عنَّف أخوَيْ عبد الله بن فاضل على ما سلف منهما في حقه، فاعتذرا قدام الخليفة، فقال لهم: تصافحوا وسامحوا بعضكم، وعفا الله عما سلف. ثم التفت إلى عبد الله وقال: يا عبد الله، اجعل أخوَيْك مُعِينَيْن لك، وتوصَّ بهما. وأوصاهما بطاعة أخيهما، ثم أنعم عليهم وأمرهم بالارتحال إلى مدينة البصرة بعد أن أعطاهم إنعامًا جزيلًا، فنزلوا من ديوان الخليفة مجبورين، وفرح الخليفة بهذه الفائدة التي استفادها من هذه الحركة؛ وهي المداوَمة على صلاة ركعتين قبل الفجر، وقال: صدَقَ مَن قال: مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائد.
هذا ما كان من أمرهم مع الخليفة، وأمَّا ما كان من أمر عبد الله بن فاضل، فإنه سافر من مدينة بغداد ومعه أخواه بالإعزاز والإكرام ورفع المقام إلى أن دخلوا مدينة البصرة، فخرج الأكابر والأعيان لملاقاتهم، وزيَّنوا لهم المدينة وأدخلوهم بموكبٍ ليس له نظيرٌ، وصار الناس يدعون له وهو ينثر الذهب والفضة، وصار جميع الناس ضاجِّينَ بالدعاء له، ولم يلتفت أحدٌ إلى أخوَيْه، فدخلَتِ الغيرةُ والحسد في قلبَيْهما، ومع ذلك كان عبد الله يداريهما مُدارَاة العين الرمداء، وكلما داراهما لا يزدادان إلا بُغْضًا له وحسدًا فيه. وقد قيل في هذا المعنى:
ثم إنه أعطى كل واحدٍ منهما سريةً ليس لها نظيرٌ، وجعلهما بخدمٍ وحشمٍ وجوارٍ وعبيدٍ سودٍ وبيضٍ من كل نوعٍ أربعين، وأعطى كل واحدٍ منهما خمسين جوادًا من الخيل الجياد، وصار لهما جماعةٌ وأتباعٌ. ثم إنه عيَّنَ لهما الخراج ورتَّبَ لهما الرواتب وجعلهما مُعِينَيْن له، وقال لهما: يا أخويَّ، أنا وأنتما سواءٌ، ولا فرْقَ بيني وبينكما. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.