فلما كانت الليلة ٩٨٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن عبد الله رتَّبَ لأخويه الرواتب وجعلهما مُعِينَيْن له، وقال لهما: يا أخويَّ، أنا وأنتما سواءٌ ولا فرقَ بيني وبينكما؛ فالحكم بعد الله والخليفة لي ولكما، فاحكما في البصرة في غيابي وحضوري، وحكمكما نافذ، ولكن عليكما بتقوى الله في الأحكام، وإياكما والظلم؛ فإنه إنْ دامَ دمَّر، وعليكما بالعدل فإنه إن دامَ عمَّر، ولا تظلما العباد فيدعوا عليكما وخبركما يصل إلى الخليفة فتحصل فضيحةٌ في حقي وحقكما، فلا تتعرَّضا لظلم أحدٍ، والذي تطمعان فيه من أموال الناس خذاه من مالي زيادةً على ما تحتاجان إليه، ولا يخفى عليكما ما ورد في الظلم من محكم الآيات، ولله درُّ مَن قال هذه الأبيات:
ثم إنه صار يعِظُ أخويه ويأمرهما بالعدل وينهاهما عن الظلم، حتى ظنَّ أنهما أحبَّاه بسبب بذل النصيحة لهما، ثم إنه ركن إليهما وبالغ في إكرامهما، ومع إكرامه لهما ما ازدادَا إلا حسدًا له وبغضًا فيه. ثم إن أخوَيْه ناصرًا ومنصورًا اجتمعا مع بعضهما، فقال ناصرٌ لمنصورٍ: يا أخي، إلى متى ونحن تحت طاعة أخينا عبد الله وهو في هذه السيادة والإمارة؟ وبعدما كان تاجرًا صار أميرًا، وبعدما كان صغيرًا صار كبيرًا، ونحن لم نكبر ولم يبقَ لنا قدرٌ ولا قيمةٌ، وها هو ضحك علينا وعملنا مُعِينَيْن له، ما معنى ذلك؟ أليس أننا خَدَمته ومن تحت طاعته؟ وما دام طيبًا لا ترتفع درجتنا ولم يَبْقَ لنا شأنٌ، فلا يتم غرضنا إلا إنْ قتلناه وأخذنا أمواله، ولا يمكن أخذ هذه الأموال إلا بعد هلاكه؛ فإذا قتلناه نسود ونأخذ جميع ما في خزائنه من الجواهر والمعادن والذخائر، وبعد ذلك نقسمها بيننا، ثم نهيئ هديةً للخليفة ونطلب منه منصب الكوفة، وأنت تكون نائب البصرة، وأنا أكون نائب الكوفة، أو أنك تكون نائب الكوفة وأنا أكون نائب البصرة، ويبقى لكل واحدٍ منا صورةٌ وشأنٌ، ولكن لا يتم لنا ذلك إلا إذا أهلكناه. فقال منصور: إنك صادقٌ فيما قلت، ولكن ماذا نصنع معه حتى نقتله؟ فقال: نعمل ضيافةً عند أحدنا، ونعرِّفه فيها ونخدمه غاية الخدمة، ثم نساهره بالكلام ونحكي له حكاياتٍ ونكتًا ونوادرَ إلى أن يذوب قلبه من السهر، ثم نفرش له حتى يرقد؛ فإذا رقد نبرك عليه وهو نائمٌ فنخنقه ونرميه في البحر ونصبح نقول: إن أخته الجنيَّة أتته وهو قاعدٌ يتحدَّث بيننا وقالت له: يا قطاعة الإنس، ما مقدارك حتى تشكوني إلى أمير المؤمنين؟ أتظن أننا نخاف منه؟ فكما أنه ملكٌ نحن ملوكٌ، وإن لم يلزم أدبه في حقنا قتلناه أقبح قتلةٍ، ولكن بقيت أنا أقتلك حتى ننظر ما يخرج من يد أمير المؤمنين. ثم خطفته وشقَّت الأرض ونزلت به، فلما رأينا ذلك غُشِي علينا، ثم استفقنا ولم ندرِ ما حصل له، وبعد ذلك نرسل إلى الخليفة ونعلمه؛ فإنه يولِّينا مكانه، وبعد مدةٍ نرسل إلى الخليفة هديةً سَنِيةً ونطلب منه حكم الكوفة، وواحدٌ منا يقيم في البصرة والآخَر يقيم بالكوفة، وتطيب لنا البلاد ونقهر العباد ونبلغ المراد. فقال له: نِعمَ ما أشرت به يا أخي.
ثم اتفقا على قتل أخيهما، وصَنَعَ ناصر ضيافةً وقال لأخيه عبد الله: يا أخي، اعلم أني أنا أخوك، ومرادي أنك تجبر بخاطري أنت وأخي منصور وتأكلان ضيافتي في بيتي حتى أفتخر بك ويقال: إن الأمير عبد الله أكل ضيافة أخيه ناصر؛ لأجل أن يحصل لي بذلك جبر خاطرٍ. فقال له عبد الله: لا بأس يا أخي، ولا فرْقَ بيني وبينك، وبيتك بيتي، ولكن حيث عزمتني فما يأبى الضيافة إلا اللئيم. ثم التفت إلى أخيه منصور وقال له: أتروح معي إلى بيت أخيك ناصر ونأكل ضيافته ونجبر بخاطره؟ فقال له: يا أخي، وحياة رأسك، ما أروح معك حتى تحلف لي أنك بعدما تخرج من بيت أخي ناصر تدخل بيتي وتأكل ضيافتي، فهل ناصرٌ أخوك وأنا لست أخاك؟! فكما جبرت بخاطره تجبر بخاطري. فقال: لا بأس بذلك، حبًّا وكرامةً، فمتى خرجتُ من دار أخيك أدخل دارك، وكما هو أخي أنت أخي. ثم إن ناصرًا قبَّلَ يد أخيه عبد الله ونزل من الديوان وعمل الضيافة، وفي ثاني يومٍ ركب عبد الله وأخذ معه جملةً من العسكر وأخاه منصورًا، وتوجَّه إلى دار أخيه ناصر، فدخل وجلس هو وجماعته وأخوه، فقدَّم لهم السماط ورحَّب بهم، فأكلوا وشربوا وتلذَّذوا وطربوا، وارتفعت السفرة والزبادي وغسلت الأيادي، وأقاموا ذلك اليوم على أكلٍ وشربٍ وبسطٍ ولعبٍ إلى الليل. فلما تعشَّوا صلوا المغرب والعشاء ثم جلسوا على منادمة، وصار منصورٌ يحكي حكاية وناصرٌ يحكي حكاية وعبد الله يسمع، وكانوا في قصرٍ وحدهم، وبقية العسكر في مكانٍ آخر، ولم يزالوا في نكتٍ وحكاياتٍ ونوادر وأخبارٍ حتى ذاب قلب أخيهم عبد الله من السهر وغلب عليه النوم. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.