فلما كانت الليلة ٩٨٩
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن عبد الله لما طال عليه السهر وأراد النوم، فرشوا له الفرش، ثم قلع ثيابه ونام وناما بجانبه على فرشٍ آخر، وصبرا عليه حتى استغرق في النوم، فلما عرفا أنه استغرق في النوم قاما وبركا عليه، فأفاق فرآهما باركَيْن على صدره، فقال لهما: ما هذا يا أخويَّ؟ فقالا له: ما نحن أخواك، ولا نعرفك يا قليل الأدب، وقد صار موتك أحسن من حياتك. وحطَّا أيديهما في رقبته وخنقاه، فغاب عن الدنيا ولم يبقَ فيه حركة، فظنَّا أنه مات، وكان القصر على البحر، فرموه في البحر. فلما وقع في البحر سخَّرَ الله له درفيلًا كان معتادًا على مجيئه تحت ذلك القصر؛ لأن المطبخ كان فيه طاقةً تُشرف على البحر، وكانوا كلما ذبحوا الذبائح يرمون تعاليقها في البحر من تلك الطاقة، فيأتي ذلك الدرفيل ويلتقطها من على وجه الماء، فاعتاد على ذلك المكان، وكانوا في ذلك اليوم قد رموا سقاطًا كثيرًا بسبب الضيافة، فأكل ذلك الدرفيل زيادةً عن كل يومٍ، وحصلت له قوة، فلما سمع الخبطة في البحر أتى بسرعةٍ، فرآه ابن آدم، فهداه الهادي وحمله على ظهره وشقَّ به في وسط البحر. ولم يزل ماشيًا به حتى وصل إلى البحر من الجهة الثانية وألقاه على البر، وكان ذلك المكان الذي أطلعه فيه على قارعة الطريق، فمرَّت به قافلةٌ فرأوه مرميًّا على جانب البحر، فقالوا: هنا غريقٌ ألقاه البحر على الشاطئ. واجتمع عليه جماعةٌ من تلك القافلة يتفرَّجون عليه، وكان شيخ القافلة رجلًا من أهل الخير، وعارفًا بجميع العلوم، وخبيرًا بعلم الطب، وصاحب فراسةٍ صادقةٍ، فقال لهم: يا ناس، ما الخبر؟ فقالوا: هذا غريقٌ ميتٌ. فأقبل عليه وتأمَّله وقال: يا ناس، هذا الشاب فيه الروح، وهذا من خيار أولاد الناس الأكابر وتربية العز والنِّعَم، وفيه الرجاء إن شاء الله تعالى. ثم إنه أخذه وألبسه بدلةً، وأدفأه وصار يعالجه ويلاطفه مدة ثلاث مراحل حتى أفاق، ولكن حصلت له خضة، فغلب عليه الضعف، وصار شيخ القافلة يعالجه بأعشابٍ يعرفها. ولم يزالوا مسافرين مدة ثلاثين يومًا حتى بعدوا عن البصرة بهذه المسافة وهو يعالج فيه، ثم دخلوا مدينةً يُقال لها مدينة عوج، وهي في بلاد العجم، فنزلوا في خانٍ وفرشوا له ورقد، فبات تلك الليلة يئِنُّ، وقد أقلق الناس من أنينه، فلما أصبح الصباح أتى بوَّاب الخان إلى شيخ القافلة وقال: ما شأن هذا الضعيف الذي عندك؟ فإنه أقلقنا! فقال: هذا رأيته في الطريق على جانب البحر غريقًا، فعالجته وعجزت ولم يُشْفَ. فقال له: اعرضه على الشيخة راجحة. فقال له: وما تكون الشيخة راجحة؟ فقال: عندنا بنتٌ بِكرٌ شيخة، وهي عذراء جميلة اسمها الشيخة راجحة، كلُّ مَن كان به داءٌ يأخذونه إليها فيبيت عندها ليلةً واحدةً فيصبح معافًى ولم يكن فيه شيءٌ يضره. فقال له شيخ القافلة: دُلَّني عليها. فقال له: احمل مريضك. فحمله ومشى بوَّاب الخان قدَّامه إلى أن وصل إلى زاويةٍ، فرأى خلائق داخلين بالنذور، وخلائق خارجين فرحانين، فدخل بوَّاب الخان حتى وصل إلى الستارة وقال: دستور يا شيخة راجحة، خذي هذا المريض. فقالت: أدخله من داخل هذه الستارة. فقال له: ادخل. فدخل ونظر إليها فرآها زوجته التي جابها من مدينة الحجر، فعرفها وعرفَتْه وسلَّمتْ عليه وسلَّم عليها. فقال لها: مَن أتى بكِ إلى هذا المكان؟ فقالت له: لمَّا رأيت أخوَيْك رمَيَاك في البحر وتخاصما عليَّ، رميتُ روحي في البحر، فتناولني شيخي الخضر أبو العباس وأتى بي إلى هذه الزاوية، وأعطاني الإذن بشفاء المرضى، ونادى في هذه المدينة: كلُّ مَن كان به داءٌ فعليه بالشيخة راجحة. وقال لي: أقيمي في هذا المكان حتى يئين الأوان ويأتي إليك زوجك في هذه الزاوية. فصار كل مريض يأتي إليَّ أكبسه فيصبح طيبًا، وشاع ذكري بين العالم، وأقبلتْ عليَّ الناس بالنذور، وعندي الخير، وأنا في عزٍّ وإكرامٍ، وجميع أهل هذه البلاد يطلبون مني الدعاء. ثم إنها كبسته فشُفِي بقدرة الله تعالى. وكان الخضر عليه السلام يحضر عندها في كل ليلةِ جمعةِ، وكانت تلك الليلة التي اجتمع فيها ليلة الجمعة، فلما جنَّ الليل جلست هي وإياه بعدما تعشَّيَا من أفخر المأكول، ثم قعدا ينتظران حضور الخضر، فبينما هما جالسان وإذا به قد أقبَلَ عليهما، فحملهما من الزاوية ووضعهما في قصر عبد الله بن فاضل بالبصرة، ثم تركهما وذهب. فلما أصبح الصباح تأمَّلَ عبد الله في القصر، فرآه قصره وعرفه، وسمع الناس في ضجةٍ، فطلَّ من الشباك فرأى أخوَيْه مصلوبَيْن؛ كل واحدٍ منهما على خشبةٍ، والسبب في ذلك أنهما لما رمياه في البحر أصبحا يبكيان ويقولان: إن أخانا خطفته الجنية. ثم هيَّآ هدية وأرسلاها إلى الخليفة وأخبراه بهذا الخبر، وطلبا منه منصب البصرة، فأرسل أحضرهما عنده وسألهما، فأخبراه كما ذكرنا، فاشتدَّ غضب الخليفة، فلما جنَّ الليل صلَّى ركعتين قبل الفجر على عادته، وصاح على طوائف الجن، فحضروا بين يديه طائعين، فسألهم عن عبد الله، فحلفوا له أنه لم يتعرَّض له أحد منهم، وقالوا له: ما عندنا خبرٌ به. فأتت سعيدة بنت الملك الأحمر وأخبرت الخليفة بخبره فصرفهم. وفي ثاني يوم رمى ناصرًا ومنصورًا تحت الضرب، فأقرَّا على بعضهما، فغضب عليهما الخليفة وقال: خذوهما إلى البصرة واصلبوهما قدام قصر عبد الله.
هذا ما كان من أمرهما، وأما ما كان من أمر عبد الله، فإنه أمر بدفن أخوَيْه، ثم ركب وتوجَّه إلى بغداد وأخبر الخليفة بحكايته وما فعل معه أخواه من الأول إلى الآخر، فتعجَّبَ الخليفة من ذلك، وأحضر القاضي والشهود وكتب كتابه على البنت التي جاء بها من مدينة الحجر، ودخل بها وأقام معها في البصرة إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرِّق الجماعات، فسبحان الحي الذي لا يموت.
حكاية الإسكافي معروف
ومما يُحكَى أيها الملك السعيد أنه كان في مدينة مصر المحروسة رجل إسكافي يرقِّع الزرابين القديمة، وكان اسمه معروفًا، وكان له زوجة اسمها فاطمة ولقبها العرَّة، وما لقَّبوها بذلك إلا لأنها كانت فاجرةً شرَّانيةً قليلة الحياء كثيرة الفتن، وكانت حاكمةً على زوجها، وفي كل يومٍ تسبُّه وتلعنه ألف مرة، وكان يخشى شرَّها ويخاف من أذاها؛ لأنه كان رجلًا عاقلًا يستحي على عِرْضه، لكنه كان فقير الحال، فإذا اشتغل بكثيرٍ صرفه عليها، وإذا اشتغل بقليلٍ انتقمت من بدنه في تلك الليلة وأعدمته العافية، وتجعل ليلته مثل صحيفتها، وهي كما قال في حقها الشاعر:
ومن جملة ما اتفق لهذا الرجل مع زوجته أنها قالت له: يا معروف، أريد منك في هذه الليلة أن تجيء لي معك بكنافةٍ عليها عسل نحلٍ. فقال لها: الله تعالى يسهِّل لي حقها وأنا أجيء بها لك في هذه الليلة، والله لم يكن معي دراهم في هذا اليوم، ولكن ربنا يسهل. فقالت له: أنا ما أعرف هذا الكلام. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.