فلما كانت الليلة ٩٩٠
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن معروفًا الإسكافي قال لزوجته: الله يسهل بكلفتها وأنا أجيء بها إليك في هذه الليلة، والله لم يكن معي دراهم في هذا اليوم، لكن ربنا يسهل. فقالت له: أنا ما أعرف هذا الكلام، إن سهَّل أو لم يسهِّل لا تجئني إلا بالكنافة التي بعسل نحلٍ، وإن جئتَ من غير كنافةٍ جعلت ليلتك مثل بختك حين تزوَّجتني ووقعت في يدي. فقال لها: الله كريم. ثم خرج ذلك الرجل والغمُّ يتناثر من يديه، فصلى الصبح وفتح الدكان وقال: أسألك يا رب أن ترزقني بحق هذه الكنافة، وتكفيني شر هذه الفاجرة في هذه الليلة. وقعد في الدكان إلى نصف النهار فلم يأتِهِ شغل، فاشتدَّ خوفه من زوجته، فقام وقفل الدكان وصار متحيرًا في أمره من شأن الكنافة مع أنه لم يكن معه من حق الخبز شيءٌ. ثم إنه مر على دكان الكنفاني ووقف باهتًا، وغرغرت عيناه بالدموع، فلحظ عليه الكنفاني وقال: يا معلم معروف، ما لكَ تبكي؟ فأخبِرْني بما أصابك. فأخبره بقصته وقال له: إن زوجتي جبَّارةٌ، وطلبت مني كنافةً، وقد قعدتُ في الدكان حتى مضى نصف النهار فلم يجِئْني ولا حق الخبز، وأنا خائفٌ منها. فضحك الكنفاني وقال: لا بأس عليك، كم رطلًا تريد؟ قال: خمسة أرطال. فوزن له خمسة أرطال وقال له: السمن عندي، ولكن ما عندي عسل نحلٍ، وإنما عندي عسل قطر أحسن من عسل النحل، وماذا يضر إذا كانت بعسل قطر؟ فاستحى منه لكونه يصبر عليه بثمنها. فقال له: هاتِها بعسل قطر. فقلى له الكنافة بالسمن وغرَّقها بعسل قطر فصارت تُهدى للملوك. ثم إنه قال له: أتحتاج عيشًا وجبنًا؟ قال: نعم. فأخذ له بأربعة أنصافٍ عيشًا وبنصفٍ جبنًا، والكنافة بعشرة أنصاف، وقال له: اعلم يا معروف أنه قد صار عندك خمسة عشر نصفًا، رُحْ إلى زوجتك واعمل حظًّا، وخذ هذا النصف حق الحمَّام، وعليك مهلٌ يومٌ أو يومان أو ثلاثة حتى يرزقك الله، ولا تضيِّق على زوجتك، فأنا أصبر عليك متى يبقى عندك دراهم فاضلةٌ عن مصروفك. فأخذ الكنافة والعيش والجبن وانصرف داعيًا له، وراح مجبور الخاطر وهو يقول: سبحانك ربي، ما أكرمك! ثم إنه دخل عليها فقالت له: هل جئت بالكنافة؟ قال: نعم. ثم وضعها قدامها، فنظرت إليها فرأتها بعسل قصبٍ فقالت له: أَمَا قلتُ لك هاتِها بعسل نحل؟ تعمل على خلاف مرادي وتعملها بعسل قصبٍ؟! فاعتذر إليها وقال لها: أنا ما اشتريتها إلا مؤجِّلًا ثمنها. فقالت: هذا كلامٌ باطلٌ، أنا ما آكل الكنافة إلا بعسل نحلٍ. وغضبت عليه وضربته بها في وجهه، وقالت له: قم يا معرص هاتِ لي غيرها. ولكمته في صدغه فقلعت سنًّا من أسنانه، ونزل الدم على صدره، ومن شدة الغيظ ضربها ضربةً واحدةً لطيفةً على رأسها، فقبضت على لحيته وصارت تصيح وتقول: يا مسلمين! فدخل الجيران وخلَّصوا لحيته من يدها، وقاموا عليها باللوم وعيَّبوها وقالوا: نحن كلنا في قبل أكل الكنافة التي بعسل القصب، ما هذا التجبُّر على هذا الرجل الفقير؟! إن هذا عيبٌ عليكِ. ولا زالوا يلاطفونها حتى أصلحوا بينها وبينه، ولكنها بعد ذهاب الناس حلفت ما تأكل من الكنافة شيئًا، فأحرقه الجوع، فقال في نفسه: هي حلفت ما تأكل فأنا آكل. ثم أكل، فلما رأته يأكل صارت تقول له: إن شاء الله يكون أكلها سمًّا يهري بدن البعيد. فقال لها: ما هو بكلامك. وصار يأكل ويضحك ويقول: أنتِ حلفت ما تأكلين من هذه، فالله كريم، فإن شاء الله في ليلة غدٍ أجيء لك بكنافةٍ تكون بعسل نحلٍ وتأكلينها وحدك. وصار يأخذ بخاطرها وهي تدعو عليه، ولم تزل تسبُّه وتشتمه إلى الصبح.
فلما أصبح الصباح شمرت عن ساعدها لضربه، فقال لها: أمهليني وأنا أجيء إليك بغيرها. ثم خرج إلى المسجد وصلَّى وتوجَّه إلى الدكان وفتحها وجلس، فلم يستقرَّ به الجلوس حتى جاءه اثنان من طرف القاضي وقالا له: قُمْ كلِّم القاضي، فإن امرأتك اشتكتك إليه وصفتها كذا وكذا. فعرفها وقال: الله تعالى ينكِّد عليها! ثم قام مشى معهما إلى أن دخل على القاضي، فرأى زوجته رابطةً ذراعها وبرقعها ملوثٌ بالدم، وهي واقفةٌ تبكي وتمسح دموعها. فقال له القاضي: يا رجل، ألم تخَف من الله تعالى؟! كيف تضرب هذه الحرمة وتكسر ذراعها وتقلع سنها وتفعل بها هذه الفعال؟ فقال له: إن كنتُ ضربتها أو قلعت سنها فاحكم فيَّ بما تختار، وإنما القصة كذا وكذا، والجيران أصلحوا بيني وبينها. وأخبره بالقصة من الأول إلى الآخر، وكان ذلك القاضي من أهل الخير، فأخرج له ربع دينارٍ وقال له: يا رجل، خذ هذا واعمل لها به كنافة بعسل نحل، واصطلِحْ أنت وإياها. فقال له: أعطِهِ لها. فأخذته وأصلح بينهما، وقال: يا امرأة، أطيعي زوجك، وأنتَ يا رجل، ترفَّقْ بها. وخرجا مصطلحين على يد القاضي، وراحت المرأة من طريق وزوجها راح من طريقٍ آخر إلى دكانه وجلس، وإذا بالرسل أتوا له وقالوا: هات خدمتنا. فقال لهم: إن القاضي لم يأخذ مني شيئًا، بل أعطاني ربع دينار. فقالوا: لا علاقةَ لنا بكون القاضي أعطاك أو أخذ منك، فإن لم تُعطِنا خدمتنا أخذناها قهرًا عنك. وصاروا يجرُّونه في السوق، فباع عدته وأعطاهم نصف دينارٍ، ورجعوا عنه وحطَّ يده على خده وقعد حزينًا حيث لم يكن عنده عدةً يشتغل بها.
فبينما هو قاعدٌ، وإذا برجلين قبيحَي المنظر أقبلا عليه وقالا له: قم يا رجل كلِّم القاضي، فإن زوجتك اشتكتك إليه. فقال لهما: قد أصلح بيني وبينها! فقالا له: نحن من عند قاضٍ آخر، فإن زوجتك اشتكتك إلى قاضينا. فقام معهما وهو يحتسب عليها، فلما رآها قال لها: أَمَا اصطلحنا يا بنت الحلال؟ فقالت: ما بقي بيني وبينك صُلح. فتقدَّمَ وحكى للقاضي حكايته وقال له: إن القاضي فلانًا أصلح بيننا في هذه الساعة. فقال لها القاضي: يا عاهرة، حيث اصطلحتما لماذا جئتِ تشكين إليَّ؟ قالت: إنه ضربني بعد ذلك. فقال لهما القاضي: اصطلحا ولا تَعُد إلى ضربها، وهي لا تعود إلى مخالفتك. فاصطلحا وقال له القاضي: أعطِ الرُّسَل خدمتَهم. فأعطى الرسل خدمتهم وتوجَّه إلى الدكان وفتحها وقعد فيها وهو مثل السكران من الهمِّ الذي أصابه. فبينما هو قاعدٌ، وإذا برجلٍ أقبل عليه وقال له: يا معروف، قُم واستخفِ، فإن زوجتك اشتكتك إلى الباب العالي، ونازلٌ عليك أبو طبق. فقام وقفل الدكان وهرب في جهة باب النصر، وكان قد بقي معه خمسة أنصاف فضة من حق القوالب والعدة، فاشترى بأربعة أنصافٍ عيشًا وبنصفٍ جبنًا وهو هارب منها، وكان ذلك في فصل الشتاء وقت العصر، فلما خرج بين الكيمان نزل عليه المطر مثل أفواه القِرَب، فابتلت ثيابه، فدخل العادلية فرأى موضعًا خَرِبًا فيه حاصلٌ مهجورٌ من غير بابٍ، فدخل يستكنُّ فيه من المطر وحوائجه مبتلةٌ بالماء، فنزلت الدموع من أجفانه وصار يتضجَّر مما به ويقول: أين أهرب من هذه العاهرة؟ أسألك يا رب أن تقيِّض لي مَن يوصلني إلى بلادٍ بعيدةٍ لا تعرف طريقي فيها. فبينما هو جالس يبكي، وإذا بالحائط قد انشقَّ وخرج له منها شخصٌ طويلُ القامة ورؤيته تقشعرُّ منها الأبدان، وقال له: يا رجل، ما لك أقلقتَني في هذه الليلة! أنا ساكنٌ في هذا المكان منذ مائتَيْ عامٍ فما رأيتُ أحدًا دخل هذا المكان وعمل مثل ما عملتَ أنت! فأخبِرْني بمقصودك وأنا أقضي حاجتك، فإن قلبي أخذته الشفقة عليك. فقال له: مَن أنت؟ وما تكون؟ فقال له: أنا عامر هذا المكان. فأخبره بجميع ما جرى له مع زوجته، فقال له: أتريد أن أوصلك إلى بلادٍ لا تعرف لك زوجتك فيها طريقًا؟ قال: نعم. قال له: اركب فوق ظهري. فركب وحمله وطار به من بعد العشاء إلى طلوع الفجر، وأنزله على رأس جبلٍ عالٍ. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.