فلما كانت الليلة ٩٩١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن معروفًا الإسكافي لمَّا حمله المارد طار به وأنزله على جبلٍ عالٍ وقال: يا إنسي، انحدِرْ من فوق هذا الجبل ترَ عتبةَ مدينةٍ فادخلها، فإنَّ زوجتك لا تعرف لك طريقًا، ولا يمكنها أن تصل إليك. ثم تركه وراح، فصار معروف باهتًا متحيرًا في نفسه إلى أن طلعت الشمس، فقال في نفسه: أقوم وأنزل من على هذا الجبل إلى المدينة، فإن قعودي هنا ليس فيه فائدة. فنزل إلى أسفل الجبل فرأى مدينةً بأسوارٍ عاليةٍ وقصورٍ مشيدةٍ وأبنيةٍ مزخرفةٍ، وهي نزهةٌ للناظرين، فدخل من باب المدينة فرآها تشرح القلب الحزين، فلما مشى في السوق صار أهل المدينة ينظرون إليه ويتفرجون عليه، واجتمعوا عليه وصاروا يتعجَّبون من ملبسه؛ لأن ملبسه لا يشبه ملابسهم. فقال له رجلٌ من أهل المدينة: يا رجل، هل أنت غريبٌ؟ قال: نعم. قال له: من أي البلاد؟ قال: من مدينة مصر السعيدة. قال له: ألك زمانٌ مُفارِقها؟ قال له: البارحة العصر. فضحك عليه وقال: يا ناس، تعالوا انظروا هذا الرجل واسمعوا ما يقول! فقالوا: ما يقول؟ قال: إنه يزعم أنه من مصر وخرج منها البارحة العصر. فضحكوا كلهم واجتمع عليه الناس وقالوا: يا رجل، أأنت مجنون حتى تقول هذا الكلام؟ كيف تزعم أنك فارقتَ مصرَ بالأمس في وقت العصر وأصبحت هنا، والحال أن بين مدينتنا وبين مصرَ مسافةَ سنةٍ كاملةٍ؟ فقال لهم: ما مجنونٌ إلا أنتم، وأمَّا أنا فإني صادقٌ في قولي، وهذا عيشُ مصرَ لم يزل معي طريًّا! وأراهم العيش، فصاروا يتفرَّجون عليه ويتعجَّبون منه؛ لأنه لا يشبه عيش بلادهم، وكثر الخلائق عليه وصاروا يقولون لبعضهم: هذا عيش مصر، تفرَّجوا عليه. وصارت له شهرةٌ في تلك المدينة، ومنهم ناسٌ يصدِّقون وناس يكذِّبون ويهزءون به.
فبينما هم في تلك الحالة، وإذا بتاجرٍ أقبَلَ عليهم وهو راكبٌ بغلة وخلفه عبدان، ففرَّق الناس وقال: يا ناس، أَمَا تَسْتحون وأنتم ملتمُّون على هذا الرجل الغريب وتسخرون منه وتضحكون عليه؟ ما علاقتكم به؟ ولم يزَل يسبُّهم حتى طردهم عنه ولم يقدر أحدٌ أن يردَّ عليه جوابًا وقال له: تعالَ يا أخي، ما عليك بأسٌ من هؤلاء، إنهم لا حياءَ عندهم. ثم أخذه وسار به إلى أن أدخَلَه دارًا واسعةً مزخرفةً، وأجلَسَه في مقعد ملوكي وأمر العبيد ففتحوا له صندوقًا، وأخرجوا له بدلةَ تاجرٍ ألفي وألبسه إياها، وكان معروف وجيهًا، فصار كأنه شاه بندر التجار. ثم إن ذلك التاجر طلب السفرة، فوضعوا قدامهما سفرة فيها جميع الأطعمة الفاخرة من سائر الألوان، فأكلا وشربا، وبعد ذلك قال له: يا أخي، ما اسمك؟ قال: اسمي معروف وصنعتي إسكافي أرقع الزرابين القديمة. قال له: من أي البلاد أنت؟ قال: من مصر. قال: من أي الحارات؟ قال له: هل أنت تعرف مصر؟ قال له: أنا من أولادها. فقال له: أنا من الدرب الأحمر. قال له: مَن تعرف من الدرب الأحمر؟ قال له: فلانًا وفلانًا. وعَدَّ له ناسًا كثيرة. قال له: هل تعرف الشيخ أحمد العطار؟ قال: هو جاري الحيط في الحيط. قال له: هل هو طيبٌ؟ قال: نعم. قال له: كم له من الأولاد؟ قال: ثلاثةٌ؛ مصطفى، ومحمد، وعلي. قال له: ما فعل الله بأولاده؟ قال: أمَّا مصطفى فإنه طيِّب، وهو عالمٌ مدرس. وأما محمد فإنه عطارٌ، قد فتح له دكانًا بجنب دكان أبيه بعد أن تزوَّجَ وولدتْ له زوجته ولدًا اسمه حسن. قال: بشَّرَك الله بالخير. قال: وأمَّا علي فإنه كان رفيقي ونحن صغار، وكنت دائمًا ألعب أنا وإياه، وبقينا نروح بصفة أولاد النصارى وندخل الكنيسة ونسرق كتب النصارى ونبيعها ونشتري بثمنها نفقة، فاتفق في بعض المرات أن النصارى رأونا ومسكونا بكتاب، فاشتكونا إلى أهلنا وقالوا لأبيه: إذا لم تمنع ولدك من أذانا شكوناك إلى الملك. فأخذ بخاطرهم وضربه علقة، فبهذا السبب هرب من ذلك الوقت ولم يعرف له طريقًا، وهو غائبٌ له عشرون سنةً، ولم يخبر عنه أحدٌ بخبر. فقال له: هو أنا علي ابن الشيخ أحمد العطار، وأنت رفيقي يا معروف. وسلَّما على بعضهما.
وبعد السلام قال: يا معروف، أخبرني بسبب مجيئك من مصر إلى هذه المدينة. فأخبره بخبر زوجته فاطمة العرة وما فعلت معه، وقال له: إنه لما اشتد عليَّ أذاها هربت منها في جهة باب النصر، ونزل عليَّ المطر فدخلت في حاصل خَرِب في العادلية، وقعدت أبكي، فخرج لي عامر المكان وهو عفريتٌ من الجن وسألني، فأخبرته بحالي، فأركبني على ظهره وطار بي طول الليل بين السماء والأرض، ثم حطَّني على الجبل وأخبرني بالمدينة، فنزلت من الجبل ودخلت المدينة، والتمَّ الناس عليَّ وسألوني فقلت لهم: إني طلعت البارحة من مصر فلم يصدِّقوني، فجئتَ أنت ومنعتَ عني الناس وجئتَ بي إلى هذه الدار، وهذا سبب خروجي من مصر. وأنت ما سبب مجيئك هنا؟ قال له: غلب عليَّ الطيش وعمري سبع سنين، فمن ذلك الوقت وأنا دائر من بلدٍ إلى بلد، ومن مدينةٍ إلى مدينة، حتى دخلت هذه المدينة واسمها اختيان الختن، فرأيت أهلها ناسًا كرامًا وعندهم الشفقة، ورأيتهم يأتمنون الفقير ويداينونه، وكل ما قاله يصدِّقونه فيه، فقلت لهم: أنا تاجر، وقد سبقتُ الحملة، ومرادي مكان أنزل فيه حملتي. فصدَّقوني وأخلَوْا لي مكانًا، ثم إني قلت لهم: هل فيكم مَن يُداينني ألف دينارٍ حتى تجيء حملتي وأردَّ له ما آخذه منه؟ فإني محتاجٌ إلى بعض مصالح قبل دخول الحملة. فأعطوني ما أردتُ وتوجَّهت إلى سوق التجار، فرأيت شيئًا من البضاعة فاشتريته، وفي ثاني يوم بِعته فربحت فيه خمسين دينارًا، واشتريت غيره، وصرت أعاشر الناس وأُكرمهم فحبوني، وصرت أبيع وأشتري فكثر مالي. واعلم يا أخي أن صاحب المثل يقول: الدنيا فشر وحيلة، والبلاد التي لا يعرفك أحدٌ فيها مهما شئتَ فافعل فيها. وأنت إذا قلتَ لكلِّ مَن سألك: أنا صنعتي إسكافي وفقير وهربت من زوجتي والبارحة طلعت من مصر، فلا يصدِّقونك، وتصير عندهم مسخرةً مدة إقامتك في هذه المدينة. وإن قلتَ: حملني عفريت. نفروا منك ولا يقرب منك أحدٌ، ويقولون: هذا رجلٌ معفرتٌ، وكلُّ مَن تقرَّبَ منه يحصل له ضررٌ. وتبقى هذه الإشاعة قبيحةٌ في حقي وحقك؛ لكونهم يعرفون أني من مصر. قال: وكيف أصنع؟ قال: أنا أعلِّمك كيف تصنع، إن شاء الله تعالى أعطيك في غدٍ ألفَ دينارٍ، وبغلةً تركبها، وعبدًا يمشي قدامك حتى يوصلك إلى باب سوق التجار، فادخلْ عليهم وأكون أنا قاعدًا بين التجار، فمتى رأيتك أقوم لك وأسلِّم عليك وأقبِّل يدك وأعظِّم قدرك، وكلما سألتك عن صنفٍ من القماش وقلت لك: هل جئتَ معك بشيء من الصنف الفلاني؟ فقل: كثيرٌ. وإن سألوني عنك أشكرك وأعظِّمك في أعينهم، ثم إني أقول لهم: خذوا له حاصلًا ودكانًا، وأصفك بكثرة المال والكرم، وإذا أتاك سائلٌ فأعطِهِ ما تيسَّرَ، فيثقون بكلامي ويعتقدون عظمتك وكرمك ويحبونك، وبعد ذلك أعزمك وأعزم جميع التجار من شأنك، وأجمع بينك وبينهم حتى يعرفوك جميعهم وتعرفهم. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.