فلما كانت الليلة ٩٩٢
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن التاجر عليًّا قال لمعروف: أعزمك وأعزم جميع التجار من شأنك، وأجمع بينك وبينهم حتى يعرفوك جميعهم وتعرفهم؛ لأجل أن تبيع وتشتري وتأخذ وتعطي معهم، فما تمضي عليك مدةٌ حتى تصير صاحبَ مالٍ. فلما أصبح الصباح أعطاه ألف دينارٍ، وألبسه بدلةً، وأركبه بغلةً، وأعطاه عبدًا، وقال: أبرأ الله ذمتك من الجميع لأنك رفيقي، فواجبٌ عليَّ إكرامك، ولا تحمل همًّا، ودَعْ عنك سيرة زوجتك ولا تذكرها لأحدٍ. فقال له: جزاك الله خيرًا. ثم إنه ركب البغلة ومشى قدامه العبد إلى أن أوصله إلى باب سوق التجار، وكانوا جميعًا قاعدين والتاجر عليٌّ قاعد بينهم، فلما رآه قام ورمى روحه عليه وقال له: نهار مبارك يا تاجر معروف، يا صاحب الخيرات والمعروف. ثم قبَّل يده قدام التجار وقال: يا إخواننا، آنسكم التاجر معروف، فسلِّموا عليه. وصار يشير لهم بتعظيمه، فعظُمَ في أعينهم، ثم أنزله من فوق ظهر البغلة، وسلَّموا عليه، وصار يختلي بواحدٍ بعد واحدٍ منهم ويشكره عنده، فقالوا له: هل هذا تاجرٌ؟ فقال لهم: نعم، بل هو أكبر التجار، ولا يوجد واحدٌ أكثر مالًا منه؛ لأن أمواله وأموال أبيه وأجداده مشهورةٌ عند تجار مصر، وله شركاء في الهند والسند واليمن، وهو في الكرم على قدرٍ عظيمٍ، فاعرفوا قدره وارفعوا مقامه واخدموه واعلموا أن مجيئه إلى هذه المدينة ليس من أجل التجارة، وما مقصده إلا الفرجة على بلاد الناس؛ لأنه غير محتاج إلى التغرُّب من أجل الربح والمكاسب؛ لأن عنده أموالًا لا تأكلها النيران، وأنا من بعض خَدَمه.
ولم يزل يشكره حتى جعلوه فوق رءوسهم، وصاروا يخبرون بعضهم بصفاته. ثم اجتمعوا عنده وصاروا يهادونه بالفطورات والشربات حتى شاه بندر التجار أتى له وسلَّم عليه وصار يقول له التاجر علي بحضرة التجار: يا سيدي، لعلك جئتَ معك بشيء من القماش الفلاني. فيقول له: كثير. وكان في ذلك اليوم فرَّجه على أصناف القماش المثمَّنة، وعرَّفه أسامي الأقمشة، الغالي والرخيص. فقال له تاجرٌ من التجار: يا سيدي، هل جئتَ معك بجوخٍ أصفر؟ قال: كثيرٌ. قال: وأحمر دم غزال؟ قال: كثيرٌ. وصار كلما سأله عن شيءٍ يقول له: كثيرٌ. فعند ذلك قال: يا تاجر علي، إن بلديك لو أراد أن يحمل ألف حمل من القماشات المثمنة يحملها. فقال له: يحملها من حاصلٍ من جملة حواصله، ولا ينقص منه شيءٌ.
فبينما هم قاعدون وإذا برجلٍ سائلٍ دارَ على التجار، فمنهم مَن أعطاه نصف فضة، ومنهم مَن أعطاه جديدًا، وغالبهم لم يعطِهِ شيئًا، حتى وصل إلى معروف، فكبش له كبشة ذهبٍ وأعطاه إياها، فدعا له وراح، فتعجَّبَ التجار من ذلك وقالوا: إن هذه عطايا ملوكٍ؛ فإنه أعطى السائل ذهبًا من غير عددٍ، ولولا أنه من أصحاب النِّعَم الجزيلة وعنده شيءٌ كثيرٌ ما كان أعطى السائلَ كبشة ذهبٍ. وبعد حصةٍ أتته امرأة فقيرةٌ، فكبش وأعطاها وذهبت تدعو له وحكت للفقراء، فأقبلوا عليه واحدًا بعد واحد، وصار كل مَن أتى له يكبش ويعطيه حتى أنفَقَ الألف دينارٍ، وبعد ذلك ضرب كفًّا على كفٍّ وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل. فقال له شاه بندر التجار: ما لك يا تاجر معروف؟ قال: كأنَّ غالبَ أهل هذه المدينة فقراء ومساكين! ولو كنت أعرف أنهم كذلك كنتُ جئتُ معي في الخرج بجانب من المال وأُحسِن به إلى الفقراء، وأنا خائفٌ أن تطول غربتي، ومن طبعي أني لا أردَّ السائل، ولم يبقَ معي ذهب، فإذا أتاني فقيرٌ ماذا أقول له؟ قال له: قل له الله يرزقك. قال: ما هي عادتي، وقد ركبني الهمُّ بهذا السبب، وكان مرادي ألف دينارٍ أتصدَّق بها حتى تجيء حملتي. فقال: لا بأس. وأرسَلَ بعض أتباعه فجاء له بألف دينارٍ، فأعطاه إياها، فصار يعطي كلَّ مَن مرَّ به من الفقراء حتى أُذِّن الظهر، فدخلوا الجامع وصلوا الظهر، والذي بقي معه من الألف دينارٍ نثره على رءوس المصلين، فانتبه له الناس وصاروا يدعون له، وصارت التجار تتعجَّب من كثرة كرمه وسخائه. ثم إنه مال على تاجر آخَر وأخذ منه ألف دينار وفرَّقها، وصار التاجر عليٌّ ينظر فعله ولا يقدر أن يتكلم، ولم يزل على هذه الحالة حتى أُذِّن العصر، فدخل المسجد وصلَّى وفرَّق الباقي، فما قفلوا باب السوق حتى أخذ خمسة آلاف دينارٍ وفرَّقها، وكل مَن أخذ منه شيئًا يقول له: حتى تجيء الحملة، إنْ أردتَ ذهبًا أعطيك، وإنْ أردتَ قماشًا أعطيك؛ فإن عندي شيئًا كثيرًا. وعند المساء عزمه التاجر علي، وعزم معه التجار جميعًا، وأجلَسَه في الصدر، وصار لا يتكلم إلا بالقماشات والجواهر، وكلما ذكروا له شيئًا يقول: عندي منه كثيرٌ. وثاني يومٍ توجَّه إلى السوق وصار يميل على التجار ويأخذ منهم الأموال ويفرِّقها على الفقراء.
ولم يزل على هذه الحالة مدة عشرين يومًا، حتى أخذ من الناس ستين ألف دينار ولم تأتِهِ حملة ولا كبة حامية. فضجَّت الناس على أموالهم وقالوا: ما أتت حملة التاجر معروف، وإلى متى وهو يأخذ أموال الناس ويعطيها للفقراء؟ فقال واحدٌ منهم: الرأي أن نتكلَّم مع بلديه التاجر علي. فأتوه وقالوا له: يا تاجر علي، إن حملة التاجر معروف لم تأتِ. فقال لهم: اصبروا؛ فإنها لا بد أن تأتي عن قريبٍ. ثم إنه اختلى به وقال له: يا معروف، ما هذه الفعال؟ هل أنا قلت لك قمِّر الخبز أو احرقه؟ إن التجار ضجوا على أموالهم، وأخبروني أنه صار عليك ستون ألف دينار أخذتها وفرَّقتها على الفقراء، ومن أين تسدُّ دَيْن الناس وأنت لا تبيع ولا تشتري؟ فقال له: أي شيء يجري؟ وما مقدار الستين ألف دينار؟ لما تجيء الحملة أعطيهم إن شاءوا قماشًا وإن شاءوا ذهبًا وفضةً. فقال له التاجر علي: الله أكبر! وهل أنت لك حملة؟ قال: كثير. قال له: الله، والرجال عليك وعلى سماجتك! هل أنا علمتك هذا الكلام حتى تقوله لي؟ فأنا أخبر بك الناس. قال: رُحْ بلا كثرة كلامٍ، هل أنا فقيرٌ؟ إنَّ حملتي فيها شيءٌ كثير؛ فإذا جاءت يأخذون متاعهم المِثل مثلَيْن، أنا غير محتاجٍ إليهم. فعند ذلك اغتاظ التاجر علي وقال له: يا قليل الأدب، لا بد أن أريك كيف تكذب عليَّ ولا تستحي. فقال له: الذي يخرج من يدك افعله، ويصبرون حتى تجيء حملتي ويأخذون متاعهم بزيادة. فتركه وراح وقال في نفسه: أنا شكرته سابقًا، وإنْ ذممتُه الآن صرتُ كاذبًا وأدخل في قول مَن قال: مَن شكر وذم، كذَبَ مرتين. وصار متحيرًا في أمره، ثم إن التجار أتوه وقالوا: يا تاجر علي، هل كلَّمته؟ قال لهم: يا ناس، أنا أستحي منه، ولي عنده ألف دينارٍ، ولم أقدر أن أكلمه عليها، وأنتم لمَّا أعطيتموه ما شاورتموني، وليس لكم عليَّ كلامٌ، فطالِبوه منكم له، وإن لم يعطِكم فاشكوه إلى ملك المدينة وقولوا له: إنه نصاب، نصب علينا. فإنَّ الملك يخلِّصكم منه. فراحوا للملك وأخبروه بما وقع وقالوا: يا ملك الزمان، إننا تحيَّرنا في أمرنا مع هذا التاجر الذي كرمُهُ زائدٌ؛ فإنه يفعل كذا وكذا، وكل شيءٍ أخذه يفرِّقه على الفقراء بالكبشة، فلو كان مقلًّا ما كانت تسمح نفسه أن يكبش الذهب ويعطيه للفقراء، ولو كان من أصحاب النِّعَم كان صِدْقُه ظهر لنا بمجيء حملته، ونحن لا نرى له حملةً مع أنه يدَّعي أن له حملةً وقد سبقها، وكلما ذكرنا له صنفًا من أصناف القماش يقول: عندي منه كثير. وقد مضت مدةٌ ولم يُبِن عن حملته خبرٌ، وقد صار لنا عنده ستون ألف دينار، وكل ذلك فرَّقه على الفقراء. وصاروا يشكرونه ويمدحون كرمه. وكان ذلك الملك طمَّاعًا، أطمع من أشعب، فلما سمع بكرمه وسخائه غلب عليه الطمع، وقال لوزيره: لو لم يكن هذا التاجر عنده أموالٌ كثيرةٌ ما كان يقع منه هذا الكرم كله، ولا بد أن تأتي حملته ويجتمع هؤلاء التجار عنده ويبعثر عليهم أموالًا كثيرة، فأنا أحقُّ منهم بهذا المال، فمرادي أن أعاشره وأتودَّد إليه حتى تأتي حملته، والذي يأخذه منه هؤلاء التجار آخذه أنا وأزوِّجه ابنتي، وأضم ماله إلى مالي. فقال له الوزير: يا ملك الزمان، ما أظنه إلا نصَّابًا، والنصَّاب قد أخرب بيت الطمَّاع. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.