فلما كانت الليلة ٨٨٥
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ملك إفرنجة لما فُقِدت ابنته مريم جاءوا له بالخبر وقالوا له: إن سفينتك فُقِدت. فقال: إن كانت سفينتي قد فُقِدت فابنتي مريم فيها بلا شك ولا ريب. ثم إن الملك دعَا من وقته وساعته بريس المينا وقال له: وحقِّ المسيحِ والدينِ الصحيح إن لم تلحق سفينتي في هذه الساعة بعسكرٍ وتأتيني بها وبمَن فيها لَأقتلَنَّك أشنعَ قِتْلة، وأمثِّل بك. ثم صرخ عليه الملك، فخرج من بين يدَيْه وهو يرتعد، وطلب العجوزَ من الكنيسة وقال لها: ما كنتِ تسمعين من الأسير الذي كان عندك في شأن بلاده؟ ومن أي البلاد هو؟ فقالت له: كان يقول أنا من مدينة إسكندرية. فلما سمع الريس كلام العجوز، رجع من وقته وساعته إلى المينا وصاح على البحرية وقال لهم: تجهَّزوا وحلُّوا القلوع. ففعلوا ما أمرهم به وسافروا، ولم يزالوا مسافرين ليلًا ونهارًا حتى أشرفوا على مدينة إسكندرية في الساعة التي طلع فيها نور الدين من السفينة وترك فيها السيدة مريم، وكان من جملة الإفرنج الوزير الأعور الذي كان اشتراها من نور الدين، فرأوا السفينة مربوطة فعرفوها، فربطوا مراكبهم بعيدًا عنها وأتوا إليها في مركب صغير من مراكبهم يعوم على ذراعين من الماء، وفي ذلك المركب مائة مقاتل، ومن جملتهم الوزير الأعور الأعرج؛ لأنه كان جبَّارًا عنيدًا، وشيطانًا مريدًا، ولصًّا محتالًا لا يقدر أحدٌ على احتياله، يشبه أبا محمد البطال؛ ولم يزالوا سائرين إلى أن وصلوا إلى تلك السفينة، فهجموا عليها وحملوا حملة واحدة، فلم يجدوا فيها أحدًا إلا السيدة مريم، فأخذوها هي والسفينة التي هي فيها بعد أن طلعوا على الشاطئ وأقاموا زمنًا طويلًا، ثم عادوا من وقتهم وساعتهم إلى مراكبهم وقد فازوا ببغيتهم من غير قتال ولا شَهْر سلاح، ورجعوا قاصدين بلاد الروم، وسافروا وقد طاب لهم الريح، ولم يزالوا مسافرين على حمايةٍ إلى أن وصلوا إلى مدينة إفرنجة، وطلعوا بالسيدة مريم إلى أبيها وهو في تخت مملكته؛ فلما نظر إليها أبوها قال لها: ويلكِ يا خائنة، كيف تركتِ دينَ الآباء والأجداد وحصن المسيح الذي عليه الاعتماد، واتَّبَعْتِ دينَ الإسلام الذي قام بالسيف على رغم الصليب والأصنام؟ فقالت له مريم: أنا ما لي ذنب؛ لأني خرجت في الليل إلى الكنيسة لأزور السيدة مريم وأتبرَّك بها، فبينما أنا في غفلةٍ وإذا بسرَّاقِ المسلمين قد هجموا عليَّ وسدُّوا فمي وشدُّوا وثاقي، وحطُّوني في السفينة وسافروا بي إلى بلادهم، فخادعتهم وتكلَّمْتُ معهم في دينهم إلى أن فكُّوا وثاقي، وما صدَّقتُ أن رجالك أدركوني وخلَّصوني، وأنا وحقِّ المسيح والدينِ الصحيح، وحقِّ الصليب ومَن صُلِب عليه، قد فرحتُ بفكاكي من أيديهم غايةَ الفرح، واتَّسَعَ صدري وانشرح، حيث خلصت من أَسْر المسلمين. فقال لها أبوها: كذبتِ يا فاجرة يا عاهرة، وحقِّ ما في مُحْكم الإنجيل من منزل التحريم والتحليل، لا بد لي من أن أقتلك أقبح قِتْلة، وأمثِّل بك أشنعَ مُثْلة، أَمَا كفاكِ الذي فعلتِه في الأول ودخل علينا محالك، حتى رجعتِ إلينا ببُهْتانك؟ ثم إن الملك أمر بقتلها وصَلْبها على باب القصر، فدخل عليه الوزير الأعور في تلك الساعة وكان مُغرَمًا بحبها قديمًا وقال له: أيها الملك، لا تقتلها وزوِّجني بها، وأنا أحرص عليها غاية الحرص، وما أدخل عليها حتى أبني لها قصرًا من الحجر الجلمود، وأعلِّي بنيانه حتى لا يستطيع أحدٌ من السارقين الصعودَ على سطحه، وإذا فرغتُ من بنيانه ذبحتُ على بابه ثلاثين من المسلمين، وأجعلهم قربانًا للمسيح عني وعنها. فأنعَمَ عليه الملكُ بزواجها، وأذِنَ للقسيسين والرهبان والبطارقة أن يزوِّجوها له، فزوَّجوها للوزير الأعور، وأذِنَ أن يشرعوا لها في بنيان قصرٍ مشيدٍ يليق بها، فشرعت العمَّال في العمل.
هذا ما كان من أمر الملكة مريم وأبيها والوزير الأعور، وأما ما كان من أمر نور الدين والشيخ العطار، فإن نور الدين لما توجَّهَ إلى العطار صاحب أبيه واستعار من زوجته إزارًا ونقابًا وخفًّا وثيابًا كثياب نساء إسكندرية، ورجع بها إلى البحر وقصد السفينةَ التي فيها السيدة مريم، فوجد الجوَّ قَفْرًا والمزارَ بعيدًا. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.