فلما كانت الليلة ٩٩٤
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بنت الملك لما زعقت الزعقة التي لا بد منها، أزال التاجر معروف بكارتها، وصارت تلك الليلة لا تُعَد من الأعمار؛ لاشتمالها على وصل المِلَاح من عِناقٍ وهراشٍ ومص ورضع إلى الصباح، ثم دخل الحمَّام ولبس بدلةً من ملابس الملوك، وطلع من الحمام ودخل ديوان الملك، فقام له مَن فيه على الأقدام، وقابلوه بإعزازٍ وإكرامٍ، وهنَّوْه وباركوا له، وجلس بجانب الملك وقال: أين الخازندار؟ فقالوا: ها هو حاضر بين يديك. قال: هاتِ الخلع وألبس جميع الوزراء والأمراء وأرباب المناصب. فجاء له بجميع ما طلب، وجلس يعطي كلَّ مَن أتى له، ويهَبُ لكل إنسانٍ على قدر مقامه، واستمرَّ على هذه الحالة مدة عشرين يومًا، ولم يَظهر له حملة ولا غيرها. ثم إن الخازندار تضايق منه غاية الضيق، ودخل على الملك في غياب معروفٍ، وكان الملك جالسًا هو والوزير لا غير، فقبَّلَ الأرض بين يديه وقال: يا ملك الزمان، أنا أُخبرك بشيءٍ؛ لأنك ربما تلومني على عدم الإخبار به. اعلم أن الخزنة فرغتْ ولم يبقَ فيها شيء من المال إلا القليل، وبعد عشرة أيام نقفلها على الفارغ. فقال الملك: يا وزير، إن حملة نسيبي تأخَّرت ولم يَبِنْ عنها خبر. فضحك الوزير وقال له: الله يلطف بك يا ملك الزمان، ما أنت إلا مغفلٌ عن فعل هذا النصَّاب الكذَّاب، وحياة رأسك إنه لا حملةَ له ولا كبة تريحنا منه، وإنما هو لم يزل ينصب عليك حتى أتلَفَ أموالك وتزوَّج بنتك بلا شيء، وإلى متى وأنت غافل عن هذا الكذَّاب؟ فقال له: يا وزير، كيف العمل حتى نعرف حقيقة حاله؟ فقال: يا ملك الزمان، لا يطَّلِع على سر الرجل إلا زوجته، فأرسِلْ إلى بنتك لتأتي خلف الستارة حتى أسألها عن حقيقة حاله؛ لأجل أن تختبره وتُطلِعنا على طبيعة حاله. فقال: لا بأس بذلك، وحياة رأسي إنْ ثبت أنه نصَّابٌ كذَّابٌ لَأقتلَنَّه أشأمَ قِتْلة!
ثم إنه أخذ الوزير ودخل به إلى قاعة الجلوس، وأرسل إلى بنته فأتت خلف الستارة، وكان ذلك في غياب زوجها، فلما أتت قالت: يا أبي، ما تريده؟ قال: كلِّمي الوزير. قالت: أيها الوزير، ما بالك؟ قال: يا سيدتي، اعلمي أن زوجك أتلف مال أبيك، وقد تزوَّجَ بك بلا مهرٍ، وهو لم يزل يَعِدُنا ويخلف الميعاد، ولم يَبِن لحملته خبر، وبالجملة نريد أن تخبرينا عنه. فقالت: إن كلامه كثير، وهو في كل وقتٍ يجيء ويَعِدُني بالجواهر والذخائر والقماشات المثمنة، ولم أرَ شيئًا. فقال: يا سيدتي، هل تقدرين في هذه الليلة أن تأخذي وتعطي معه في الكلام وتقولي له: أخبرني بالصحيح ولا تخَفْ من شيءٍ، فإنك صرتَ زوجي ولا أفرِّط فيك، فأخبِرْني بحقيقة الأمر وأنا أدبِّر لكَ تدبيرًا ترتاح به. ثم قرِّبي وبعِّدي له في الكلام، وأَرِيه المحبةَ وقرِّريه، ثم بعد ذلك أخبرينا بحقيقة أمره. فقالت: يا أبتِ، أنا أعرف كيف أختبره. ثم إنها ذهبت، وبعد العشاء دخل عليها زوجها معروف على جري عادته، فقامت له وأخذته من تحت إبطه، وخادعَتْه خداعًا زائدًا، وناهيك بمُخادَعة النساء إذا كان لهنَّ عند الرجال حاجةٌ يُرِدْنَ قضاءها. وما زالت تخادعه وتلاطفه بكلامٍ أحلى من العسل حتى سرقت عقله، فلما رأته مال إليها بكُلِّيته قالت له: يا حبيبي، يا قرَّة عيني، يا ثمرة فؤادي، لا أوحش الله ولا فرَّق الزمان بيني وبينك، فإن محبَّتك سكنتْ فؤادي، ونار غرامك أحرقت أكبادي، وليس فيكَ تفريطٌ أبدًا، ولكن مرادي أن تخبرني بالصحيح؛ لأن حِيَل الكذب غير نافعةٍ، لا تنطلي في كل الأوقات، وإلى متى وأنت تنصب وتكذب على أبي؟! وأنا خائفةٌ أن يفتضح أمرك عنده قبل أن ندبِّر له حيلةً فيبطش بك. فأخبِرْني بالصحيح، وما لك إلا ما يسرُّك، ومتى أخبرتَني بحقيقة الأمر فلا تخشَ من شيء يضرك، فكم تدَّعي أنك تاجرٌ وصاحب أموالٍ ولك حملةٌ، وقد مضت لك مدة طويلة وأنت تقول: حملتي حملتي، ولم يَبِن عن حملتك خبر، ويلوح على وجهك الهم بهذا السبب، فإن كان كلامك ليس له صحةٌ فأخبرني وأنا أدبِّر لك تدبيرًا تخلص به إن شاء الله. فقال لها: يا سيدتي، أنا أخبرك بالصحيح، ومهما أردتِ فافعلي. فقالت: قُلْ وعليك بالصدق؛ فإن الصدق سفينة النجاة، وإياك والكذب؛ فإنه يفضح صاحبه، ولله درُّ مَن قال:
فقال: يا سيدتي، اعلمي أني لستُ تاجرًا، ولا لي حملة ولا كبة حامية، وإنما كنتُ في بلادي رجلًا إسكافيًّا، ولي زوجة اسمها فاطمة العرَّة، وجرى لي معها كذا وكذا … وأخبرها بالحكاية من أولها إلى آخرها. فضحكت وقالت: إنك ماهرٌ في صناعة الكذب والنصب. فقال: يا سيدتي، الله تعالى يبقيكِ لستر العيوب وفك الكروب. فقالت: اعلم أنك نصبت على أبي وغرَّرتَه بكثرة فشرك حتى زوَّجني بك من طمعه، ثم أتلفتَ ماله، والوزير مُنكِر ذلك عليك، وكم مرة يتكلَّم فيك عند أبي ويقول له: إنه نصَّابٌ كذَّابٌ. ولكن أبي لم يُطِعه فيما يقول بسبب أنه كان خطبني وأنا لم أرضَ به أن يكون لي بَعْلًا وأكون له أهلًا، ثم إن المدة طالت، وقد تضايق أبي وقال لي: قرِّريه. وقد قرَّرتك وانكشف المغطَّى، وأبي مصرٌّ لك على الضرر بهذا السبب، ولكنك صرتَ زوجي وأنا لا أفرِّط فيك، فإن أخبرتُ أبي بهذا الخبر ثبت عنده أنك نصَّابٌ كذَّابٌ، وقد نصبتَ على بنات الملوك وأذهبتَ أموالهم، فذنبك عنده لا يُغتفَر، ويقتلك بلا محالةٍ، ويشيع بين الناس أني تزوَّجتُ برجلٍ نصَّابٍ كذَّابٍ، وتكون فضيحة في حقي، وإذا قتلك أبي ربما يحتاج إلى أن يزوِّجني إلى آخر، وهذا شيء لا أقبله ولو مت، ولكن قُمِ الآن والبس بدلة مملوكٍ، وخذ معك خمسين ألف دينارٍ من مالي، واركب على جوادٍ وسافر إلى بلاد يكون حكم أبي لا ينفذ فيها، واعمل تاجرًا هناك واكتب لي كتابًا وأرسله مع ساعٍ يأتيني به خفيةً لأعلم في أي البلاد أنت، حتى أرسلَ إليك كل ما طالته يدي ويكثر مالك، فإن مات أبي أرسلت إليك فتجيء بإعزازٍ وإكرامٍ، وإذا مت أنت أو مت أنا إلى رحمة الله تعالى، فالقيامة تجمعنا، وهذا هو الصواب، وما دمت طيبًا وأنا طيبة فلا أقطع عنك المراسَلة والأموال. قم قبل أن يطلع النهار عليك وتحتار ويحيط بك الدمار.
فقال لها: يا سيدتي، أنا في عرضك أن تودِّعيني بوصالك. فقالت: لا بأس. ثم واصلها واغتسل ولبس بدلة مملوكٍ، وأمر السُّيَّاس أن يشدُّوا له جواده من الخيل الجياد، فشدوا له جوادًا، ثم ودَّعها وخرج من المدينة في آخر الليل وسار، فصار كل مَن رآه يظن أنه مملوكٌ من مماليك السلطان مسافرٌ في قضاء حاجةٍ. فلما أصبح الصباح جاء أبوها هو والوزير إلى قاعة الجلوس، وأرسل إليها أبوها فأتت خلف الستارة، فقال لها أبوها: يا بنتي، ما تقولين؟ قالت: أقول: سوَّد الله وجه وزيرك؛ فإنه كان مراده أن يسوِّد وجهي مع زوجي. قال: وكيف ذلك؟ قالت: إنه دخل عليَّ أمس قبل أن أذكر له هذا الكلام، وإذا بفرج الطواشي جاء عليَّ وبيده كتابٌ وقال: إن عشرة مماليك واقفون تحت شباك القصر، وأعطوني هذا الكتاب وقالوا لي: قبِّلْ لنا أيادي سيدي معروف وأعطِه هذا الكتاب؛ فإننا من مماليكه الذين مع الحملة، وقد بلغنا أنه تزوَّجَ بنت الملك فأتينا له لنخبره بما حلَّ بنا في الطريق. فأخذتُ الكتاب وقرأته فرأيت فيه: «من المماليك الخمسمائة إلى حضرة سيدنا التاجر معروف. وبعد؛ فالذي نعلمك به أنك بعدما فتَّنا خرج العرب علينا وحارَبونا وهم قدر ألفين من الفرسان ونحن خمسمائة مملوك، ووقع بيننا وبين العرب حربٌ عظيمة، ومنعونا عن الطريق، ومضى لنا ثلاثون يومًا ونحن نحاربهم، وهذا سبب تأخيرنا عنك …» وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.