فلما كانت الليلة ٩٩٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير لما دبَّر للمَلك هذا التدبير، قال له: صدقتَ. وباتا متفقَيْن على هذا الأمر. فلما أصبح الصباح خرج الملك إلى المقعد وجلس، وإذا بالخدامين والسُّياس دخلوا عليه مكروبين. فقال لهم: ما الذي أصابكم؟ قالوا: يا ملك الزمان، إن السُّياس تمروا الخيل وعلقوا عليها وعلى البغال التي جاءت بالحملة، فلما أصبحنا وجدنا المماليك سرقوا الخيل والبغال، وفتَّشنا الإصطبلات فما رأينا خيلًا ولا بغالًا، ودخلنا محل المماليك فلم نرَ فيه أحدًا، ولم نعرف كيف هربوا. فتعجَّبَ الملك من ذلك؛ لأنه ظن أن الأعوان كانوا خيلًا وبغالًا ومماليك، ولم يعلم أنهم كانوا أعوان خادم الرصد، فقال لهم: يا ملاعين! ألف دابة وخمسمائة مملوك وغيرهم من الخدام، كيف هربوا ولم تشعروا بهم؟ فقالوا: ما عرفنا كيف جرى لنا حتى هربوا. فقال: انصرفوا حتى يخرج سيدكم من الحريم وأخبروه بالخبر. فانصرفوا من قدام الملك وجلسوا متحيِّرين في هذا الأمر. فبينما هم جالسون على تلك الحالة، وإذا بمعروف قد خرج من الحريم، فرآهم مغتمِّين، فقال لهم: ما الخبر؟ فأخبروه بما حصل، فقال: وما قيمتهم حتى تغتمُّوا عليهم؟ امضوا إلى حال سبيلكم. وقعد يضحك، ولم يغتَظْ ولم يغتمَّ من هذا الأمر. فطلَّ الملك في وجه الوزير وقال له: أيُّ شيءٍ هذا الرجل الذي ليس للمال عنده قيمة؟! فلا بد لذلك من سبب. ثم إنهم تحدَّثوا معه ساعة وقال الملك: يا نسيبي، خاطري أن أروح أنا وأنت والوزير بستانًا لأجل النزهة، فما تقول؟ قال: لا بأس. ثم إنهم ذهبوا وتوجَّهوا إلى بستان فيه من كل فاكهةٍ زوجان، أنهاره دافقةٌ وأشجاره باسقةٌ وأطياره ناطقةٌ، ودخلوا فيه قصرًا يزيل عن القلوب الحزن، وجلسوا يتحدَّثون والوزير يحكي غريبَ الحكايات، ويأتي بالنكت المُضحِكات والألفاظ المطرِبات، ومعروف مُصغٍ إلى الحديث حتى طلع الغداء وحطوا سفرة الطعام وباطية المدام، وبعد أن أكلوا وغسلوا أيديهم ملأ الوزير الكأس وأعطاه للملك، فشربه، وملأ الثاني وقال لمعروف: هاكَ كأس الشراب الذي تخضع لهيبته أعناق ذوي الألباب. فقال معروف: ما هذا يا وزير؟ قال الوزير: هذه البِكر الشمطاء، والعانس العذراء، ومهدية السرور إلى السرائر، التي قال فيها الشاعر:
ولله در القائل:
وما أحسن قول الشاعر:
وقول الآخر:
وقول الآخر:
وأحسن من ذلك قول أبي نواس:
وأحسن من الجميع قول ابن المعتز:
ولله درُّ القائل:
وما أحسن قول الشاعر:
وقول الآخر:
وقول الآخر:
وما زال يرغِّبه في الشراب ويذكر له من محاسنه ما استطاب، ويُنشِده ما ورد فيه من الأشعار ولطائف الأخبار، حتى مال إلى ارتشافِ ثَغْرِ القَدَح، ولم يبقَ له غيرها مقترح. وما زال يملأ له وهو يشرب ويستلذ ويطرب حتى غاب عن صوابه، ولم يميِّز خطأه من صوابه، فلما علم أن السُّكْر بلغ به الغاية وتجاوَزَ النهاية قال له: يا تاجر معروف، والله إني متعجبٌ من أين وصلتْ إليك هذه الجواهر التي لا يوجد مثلها عند الملوك الأكاسرة؟ وعمرنا ما رأينا تاجرًا حاز أموالًا كثيرة مثلك ولا أكرم منك، فإن أفعالك أفعالُ ملوك وليست أفعالَ تجار، فبالله عليك أن تخبرني حتى أعرف قدرك ومقامك. وصار يمارسه ويخادعه وهو غائب العقل. فقال له معروف: أنا لست تاجرًا ولا من أولاد الملوك … وأخبره بحكايته من أولها إلى آخرها. فقال له: بالله عليك يا سيدي معروف إنك تفرِّجنا على هذا الخاتم حتى ننظر كيف صنعته. فقلع الخاتم وهو في حال سُكْره وقال: خذوا تفرَّجوا عليه. فأخذه الوزير وقلبه وقال: هل إذا دعكتُه يحضر الخادم؟ قال: نعم ادعكْه يحضر لك وتفرَّج عليه. فدعكه، وإذا بقائلٍ يقول: لبيك يا سيدي، اطلبْ تُعْطَ، هل تخرب مدينة أو تعمر مدينة أو تقتل ملكًا؟ فمهما طلبتَه فإني أفعله لك من غير خلاف. فأشار الوزير إلى معروف وقال للخادم: احمل هذا الخاسر ثم ارمِهِ في أوحش الأراضي الخراب حتى لا يجد فيها ما يأكل ولا ما يشرب، فيهلك من الجوع ويموت كمدًا ولم يدرِ به أحد. فخطفه الخادم وطار به بين السماء والأرض. فلما رأى معروف ذلك أيقَنَ بالهلاك وسوء الارتباك، فبكى وقال: يا أبا السعادات، إلى أين أنت رايح بي؟ فقال له: أنا رايح أرميك في الربع الخراب يا قليل الأدب، مَن يملك رصدًا مثل هذا ويعطيه للناس يتفرَّجون عليه؟ لكن تستأهل ما حلَّ بك، ولولا أني أخاف الله لرميتك من مسافة ألف قامة فلا تصل إلى الأرض حتى تمزِّقك الرياح. فسكت وصار لا يخاطبه حتى وصل به إلى الربع الخراب ورماه هناك، ورجع وخلَّاه في الأرض الموحشة. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.