فلما كانت الليلة ١٠٠٠
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العساكر من شدة غيظهم جلسوا في الديوان يتحدثون في شأن الوزير وما فعل بالملك ونسيبه وبنته، وإذا بالملك دخل عليهم في الديوان ومعه نسيبه معروف، فلما رأته العساكر فرحوا بقدومه، وقاموا له على الأقدام وقبَّلوا الأرض بين يديه، ثم جلس على الكرسي وأخبرهم بالقصة، فزالت عنهم تلك الغصَّة، وأمر بزينة المدينة، وأحضر الوزيرَ من الحبس، فلما مرَّ بالعساكر صاروا يلعنونه ويشتمونه ويوبخونه حتى وصل إلى الملك، فلما تمثَّل بين يديه أمر بقتله أشنع قِتْلة، فقتلوه ثم حرقوه وراح إلى سقر في أسوأ الأحوال، وأجاد فيه مَن قال:
ثم إن الملك جعل معروفًا وزيرَ ميمنةٍ عنده، وطابت لهم الأوقات وصَفَتْ لهم المسرَّات، واستمروا على ذلك خمس سنوات. وفي السنة السادسة مات الملك فجعلته بنت الملك سلطانًا مكانَ أبيها ولم تعطِهِ الخاتم، وكانت في هذه المدة حملتْ منه ووضعتْ غلامًا بديع الجمال بارع الحُسْن والكمال، ولم يزَل في حِجر الدادات حتى بلغ من العمر خمس سنوات، فمرضت أمه مرض الموت، فأحضرت معروفًا وقالت له: أنا مريضة. قال لها: سلامتك يا حبيبة قلبي. قالت له: ربما أموت فلا تحتاج إلى أن أوصيك على ولدك، وإنما أوصيك بحفظ الخاتم خوفًا عليك وعلى هذا الغلام. فقال: ما على مَن يحفظه الله بأس. فقلعت الخاتم وأعطته له، وفي ثاني يومٍ تُوفِّيتْ إلى رحمة الله تعالى، وأقام معروف ملكًا وصار يتعاطى الأحكام، فاتفق له في بعض الأيام أنه نفض المنديل فانفضَّت العساكر من قدامه إلى أماكنهم، ودخل هو قاعة الجلوس وجلس فيها إلى أن مضى النهار وأقبل الليل بالاعتكار، فدخل عليه أرباب منادَمته من الأكابر على عادتهم، وسهروا عنده من أجل البسط والانشراح إلى نصف الليل، ثم طلبوا الإجازة بالانصراف، فأذِنَ لهم، وخرجوا من عنده إلى بيوتهم، وبعد ذلك دخلت عليه جاريةٌ كانت مقيَّدة بخدمة فراشه، ففرشت له المرتبة وقلَّعته البدلة وألبسَتْه بدلة النوم، واضطجع، فصارت تكبِّس أقدامه حتى غلب عليه النوم، فخرجت من عنده وراحت إلى مرقدها ونامت.
هذا ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر الملك معروف، فإنه كان نائمًا فلم يشعر إلا وشيء بجانبه في الفراش، فانتبه مرعوبًا وقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم! ثم فتح عينَيْه فرأى في جانبه امرأة قبيحة المنظر، فقال لها: مَن أنتِ؟ قالت: لا تخَف، أنا زوجتك فاطمة العرَّة. فنظر في وجهها فعرفها بمسخة صورتها وطول أنيابها، وقال: مِن أين دخلتِ عليَّ؟ ومَن جاء بك إلى هذه البلاد؟ فقالت له: في أي البلاد أنت في هذه الساعة؟ قال: في مدينة خيتان الختن، وأنتِ متى فارقتِ مصر؟ قالت: في هذه الساعة. قال لها: وكيف ذلك؟ قالت: اعلم أني لمَّا تشاجرتُ معك وقد أغراني الشيطان على ضررك واشتكيتك إلى الحكَّام، ففتشوا عليك فما وجدوك، وسأل القضاة عنك فما رأوك، وبعد أن مضى يومان لحقتني الندامة، وعلمت أن العيب عندي، وصار الندم لا ينفعني، وقعدت مدةَ أيامٍ وأنا أبكي على فراقك، وقَلَّ ما في يدي واحتجتُ إلى السؤال لأجل القوت، فصرتُ أسأل كل مغبوطٍ وممقوتٍ، ومن حين فارقتَني وأنا آكل من ذلِّ السؤال، وصرت في أسوأ الأحوال، وكل ليلةٍ أقعد أبكي على فراقك وعلى ما قاسيتُ بعد غيابك من الذلِّ والهوان، والتعاسة والخسران. وصارت تحدِّثه بما جرى لها وهو باهت فيها، إلى أن قالت: وفي أمس درت طول النهار أسأل فلم يعطني أحد شيئًا، وصرت كلَّما أقبَلَ عليَّ أحد وأسأله كِسرة يشتمني ولا يعطيني شيئًا، فلما أقبل الليل بتُّ من غير عشاء، فأحرقني الجوع وصعب عليَّ ما قاسيت، وقعدت أبكي، وإذا بشخصٍ تصوَّر قدامي وقال لي: يا امرأة، لأي شيءٍ تبكين؟ فقلت: إنه كان لي زوجٌ يصرف عليَّ ويقضي أغراضي، وقد فُقِد مني ولم أعرف أين راح، وقد قاسيتُ الغلبَ من بعده. فقال: ما اسم زوجك؟ قلت: اسمه معروف. قال: أنا أعرفه. اعلمي أن زوجك الآن سلطانٌ في مدينة، وإن شئتِ أن أوصلك إليه أفعل ذلك. فقلت له: أنا في عِرْضك أن توصلني إليه. فحملني وطار بي بين السماء والأرض حتى أوصلني إلى هذا القصر وقال: ادخلي في هذه الحجرة ترَيْ زوجك نائمًا على السرير. فدخلتُ فرأيتك في هذه السيادة، وأنا ما كان في أملي أنك تفوتني وأنا رفيقتك، والحمد لله الذي جمعني عليك. فقال لها: هل أنا فُتُّكِ أو أنتِ التي فُتِّني وأنت تشكينني من قاضٍ إلى قاضٍ، وختمتِ ذلك بشكايتي إلى الباب العالي حتى نزَّلتِ عليَّ أبا طبق من القلعة فهربت قهرًا عني؟! وصار يحكي لها على ما جرى له إلى أن صار سلطانًا وتزوَّج بنت الملك، وأخبرها بأنها ماتت وخلَّف منها ولدًا صار عمره سبع سنين. فقالت له: والذي جرى مقدَّر من الله تعالى، وقد ثُبْتُ، وأنا في عِرْضك أنك لا تفوتني، ودعني آكل عندك العيش على سبيل الصدقة. ولم تزل تتواضع له حتى رقَّ قلبه لها وقال لها: توبي عن الشر واقعدي عندي، وليس لكِ إلا ما يسرُّك، فإن عملتِ شيئًا من الشر أقتلك ولا أخاف من أحدٍ، فلا يخطر ببالك أنكِ تشكينني إلى الباب العالي وينزل لي أبو طبق من القلعة؛ فإني صرت سلطانًا والناس تخاف مني، وأنا لا أخاف إلا من الله تعالى، فإن معي خاتم استخدام، متى دعكته يظهر لي خادم الخاتم واسمه أبو السعادات، ومهما طلبته منه يجيئني به، فإن كنتِ تريدين الذهاب إلى بلدك أعطيك ما يكفيك طول عمرك وأرسلك إلى بلادك بسرعة، وإن كنتِ تريدين القعود عندي فإني أُخلي لك قصرًا وأفرش لك من خاص الحرير، وأجعل لك عشرين جاريةً تخدمك، وأرتب لك المآكل الطيبة والملابس الفاخرة وتصيرين ملكة وتقيمين في نعيمٍ زائدٍ حتى تموتي أو أموت أنا. فما تقولين في هذا الكلام؟ قالت: أنا أريد الإقامة عندك. ثم قبَّلتْ يده وتابت عن الشر، فأفرد لها قصرًا وحدها، وأنعم عليها بجوارٍ وطواشية، وصارت ملكة. ثم إن الولد صار يذهب عندها وعند أبيه، فكرهت الولد لكونه ما هو ابنها، فلما رأى الولد منها عين الغضب والكراهة نفر منها وكرِهَها. ثم إن معروفًا اشتغل بحب الجواري الحِسَان، ولم يفكر في زوجته فاطمة العرَّة؛ لأنها صارت عجوزًا شمطاء بصورةٍ شوهاء، وسحنة معطاء، أقبح من الحية الرقطاء، خصوصًا وقد أساءته إساءةً لا مزيدَ عليها، وصاحب المثل يقول: الإساءة تقطع أصلَ المطلوب، وتزرع البغضاء في أرض القلوب. ولله درُّ القائل:
ثم إن معروفًا لم يأوِها لخصلة حميدة فيها، وإنما عمل معها هذا الإكرام ابتغاء مرضاة الله تعالى.
ثم إن دنيازاد قالت لأختها شهرزاد: ما أطيبَ هذه الألفاظ التي هي أشدُّ أخذًا للقلوب من سواحر الألحاظ! وما أحسنَ هذه الكتب الغريبة والنوادر العجيبة! فقالت شهرزاد: وأين هذا مما أحدِّثكم به الليلة القابلة إنْ عشتُ وأبقاني الملك! فلما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح، أصبح الملك منشرح الصدر ومنتظرًا لبقية الحكاية، وقال في نفسه: والله لا أقتلها حتى أسمع بقية حديثها. ثم خرج إلى محل حكمه وطلع الوزير على عادته بالكفن تحت إبطه، فمكث الملك في الحكم بين الناس طول نهاره، وبعد ذلك ذهب إلى حريمه ودخل على زوجته شهرزاد بنت الوزير على جري عادته. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.