فلما كانت الليلة ٨٨٧
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير لما أمر بحبس نور الدين أخذوه مقيَّدًا جائعًا عطشانًا يتحسَّر على نفسه وقد نظر الموت بعينه، وكان بالأمر المقدَّر والقضاء المبرَم للملك حِصانان أخَوَان شقيقان، أحدهما اسمه سابق والآخَر اسمه لاحق، وكانت بحسرةِ تحصيلِ واحدٍ منهما الملوكُ الأكاسرة، وكان أحدهما أشهبَ نقيًّا، والآخَر أدهمَ كالليل الحالك، وكان ملوك الجزائر جميعًا يقولون: كلُّ مَن سرق لنا حِصانًا من هذين الحِصانَيْن نعطيه جميعَ ما يطلبه من الذهب الأحمر والدر والجوهر، فلم يقدر أحدٌ على سرقة واحد من هذين الحِصانين، فحصل لأحدهما مرض في عينَيْه، فأحضر الملك جميعَ البياطرة لدوائه فعجزوا عنه كلهم، فدخل على الملكِ الوزيرُ الأعور الذي تزوَّجَ ابنته، فرآه مهمومًا من قبل ذلك الحِصان، فأراد أن يزيل همه فقال: أيها الملك، أعطني هذا الحصان وأنا أُداوِيه. فأعطاه له، فنقله إلى الإصطبل الذي محبوس فيه نور الدين، فلمَّا فارَقَ هذا الحِصانُ أخاه، صاحَ صيحةً عظيمة وصهل حتى أزعج الناس من الصياح، فعرف الوزير أنه ما حصل منه هذا الصياح إلا لفراقه من أخيه، فراح وأعلَمَ الملك بذلك، فلما تحقَّقَ الملكُ كلامَه قال: إذا كان ذلك حيوانًا ولم يصبر على فراق أخيه، فكيف بذوي العقول؟ ثم أمر الغلمان أن ينقلوا الحصان عند أخيه بدار الوزير زوج مريم، وقال لهم: قولوا للوزير إن الملك يقول لك إن الحصانين إنعامٌ منه عليك لأجل خاطر ابنته مريم.
فبينما نور الدين نائم في الإصطبل وهو مقيَّد مُكبَّل، إذ نظَرَ الحصانَيْن فوجَدَ على عينَيْ أحدهما غشاوة، وكان عنده بعض معرفة بأحوال الخيل وممارسة دوائها، فقال في نفسه: هذا والله وقت فرصتي، فأقوم وأكذب على الوزير وأقول له أنا أداوي هذا الحِصان، وأعمل له شيئًا يُتلِف عينَيْه فيقتلني وأستريح من هذه الحياة الذميمة. ثم إن نور الدين انتظَرَ الوزير إلى أن دخَلَ الإصطبل ينظر الحِصانين، فلما دخل قال له نور الدين: يا مولاي، أيُّ شيء يكون لي عليك إذا أنا داويْتُ لك هذا الحصان، وأعمل له شيئًا يطيِّب عينَيْه؟ فقال له الوزير: وحياة رأسي إن داويتَه أعتقك من الذبح، وأخليك تتمنَّى عليَّ. فقال له: يا مولاي، مُرْ بفكِّ قيدي. فأمر الوزير بإطلاقه، فنهض نور الدين وأخذ زجاجًا بكرًا وسحقه، وأخذ جيرًا بلا طفي وخلَطَه بماء البصل، ثم وضع الجميع في عينَيِ الحصان وربطهما، وقال في نفسه: الآن تغور عيناه فيقتلوني وأستريح من هذه العيشة الذميمة.
ثم إن نور الدين نام تلك الليلة بقلبٍ خالٍ من وسواس الهمِّ، وتضرَّعَ إلى الله تعالى وقال: يا رب، في علمك ما يُغنِي عن السؤال. فلما أصبح الصباح وأشرقت الشمس على الروابي والبطاح، جاء الوزير إلى الإصطبل وفكَّ الرباط عن عينَي الحصان ونظر إليهما، فرآهما أحسن عيون ملاح بقدرة الملك الفتَّاح. فقال له الوزير: يا مسلم، ما رأيتُ في الدنيا مثلك في حُسْن معرفتك، وحق المسيح والدين الصحيح إنك أعجبتَني غايةَ الإعجاب، فإنه عجز عن دواء هذا الحصان كلُّ بيطار في بلادنا. ثم تقدَّمَ إلى نور الدين وحلَّ قيْدَه بيده، ثم ألبَسَه حلةً سنية وجعله ناظرًا على خيله، ورتَّبَ له مرتبات وجرايات، وأسكنه في طبقة على الإصطبل، وكان في القصر الجديد الذي بناه للسيدة مريم شبَّاك مُطِلٌّ على بيت الوزير وعلى الطبقة التي فيها نور الدين، فقعد نور الدين مدةَ أيام يأكل ويشرب، ويتلذَّذ ويطرب، ويأمر وينهى على خدمة الخيل، وكلُّ مَن غاب منهم ولم يعلق على الخيل المربوطة على الطُّوَالة التي فيها خدمته، يرميه ويضربه ضربًا شديدًا، ويضع في رجلَيْه القيدَ الحديد. وفرح الوزير بنور الدين غايةَ الفرح، واتسع صدره وانشرح، ولم يَدْرِ ما يئول أمره إليه. وكان نور الدين كلَّ يوم ينزل إلى الحصانين ويمسحهما بيده لِمَا يعلم من معزَّتِهما عند الوزير ومحبته لهما، وكان للوزير الأعور بنت بِكْر في غاية الجمال، كأنها غزال شارد وغصن مائد، فاتفق أنها كانت جالسةً ذات يوم من الأيام في الشباك المُطِلِّ على بيت الوزير، وعلى المكان الذي فيه نور الدين، إذ سمعت نور الدين يغني ويسلِّي نفسه على المشقات، بإنشاد هذه الأبيات:
فلما استتم نور الدين أقصى كلامه، وفرغ من شعره ونظامه، قالت في نفسها بنت الوزير: وحقِّ المسيح والدين الصحيح، إن هذا المسلم شاب مليح، ولكنه لا شكَّ عاشق مفارِق، فيا تُرَى هل معشوق هذا الشاب مليحٌ مثله؟ وهل عنده مثل ما عنده أم لا؟ فإن كان معشوقه مليحًا مثله يحقُّ له إسالة العَبَرات وشكوى الصبابات، وإنْ كان غير مليح فقد ضيَّعَ عمره في الحسرات، وحُرِمَ طعْمَ اللذات. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.