فلما كانت الليلة ٨٨٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بنت الوزير قالت في نفسها: فإن كان معشوقه مليحًا
يحقُّ له إسالة العَبَرات، وإن كان غير مليح فقد ضيَّعَ عمره في الحسرات. وكانت مريم
الزنارية زوجةَ الوزير قد نُقِلت إلى القصر أمس ذلك اليوم، وعلمَتْ منها بنتُ الوزير
ضِيقَ
الصدر، فعزمت أن تذهب إليها وتحدِّثها بخبر هذا الغلام، وما سمعت منه من النظام، فما
استتمَّتِ الفكرَ في هذا الكلام، حتى أرسلت خلفها السيدةُ مريم زوجةُ أبيها لأجلِ أن
تؤانسها بالحديث، فذهبت إليها فرأَتْ صدرها ضيِّقًا ودموعها جارية على خدِّها، وهي تبكي
بكاءً شديدًا ما عليه من مزيد، تُكفكِف العَبَرات وتنشد هذه الأبيات:
مَضَى عُمْرِي وَعُمْرُ الْوَجْدِ بَاقِ
وَصَدْرِي ضَاقَ مِنْ فَرْطِ اشْتِيَاقِي
وَقَلْبِي ذَابَ مِنْ أَلَمِ الْفِرَاقِ
يُؤَمِّلُ عَوْدَ أَيَّامِ التَّلَاقِي
لِيَنْتَظِمَ الْوِصَالُ عَلَى اتِّسَاقِ
أَقِلُّوا اللَّوْمَ عَنْ مَسْلُوبِ قَلْبِ
نَحِيلُ الْجِسْمِ مِنْ شَوْقٍ وَكَرْبِ
وَلَا تَرْمُوا هَوَاهُ بِسَهْمِ عَتْبِ
فَمَا فِي الْكَوْنِ أَشْقَى مِنْ مُحِبِّ
فَمُرُّ الْعِشْقِ حُلْوٌ فِي الْمَذَاقِ
فقالت بنت الوزير للسيدة مريم: ما لك أيتها المَلِكة ضيِّقة الصدر مشتَّتة الفكر؟
فلما
سمعَتِ السيدةُ مريم كلامَ بنت الوزير تذكَّرَتْ ما فات من عظيم اللذات، وأنشدت هذين
البيتين:
سَأَصْبِرُ تَوْطِينًا عَلَى هَجْرِ صَاحِبِي
وَأُرْسِلُ دُرَّ الدَّمْعِ نَثْرًا عَلَى نَثْرِ
عَسَى فَرَجٌ يَأْتِي بِهِ اللهُ إِنَّهُ
طَوَى كُلَّ يُسْرٍ تَحْتَ جَانِحَةِ الْعُسْرِ
فقالت لها بنت الوزير: أيتها الملكة، لا تضيقي صدرًا وقومي معي في هذه الساعة إلى
شباك
القصر، فإن عندنا في الإصطبل شابًّا مليحًا رشيقَ القوام حلوَ الكلام كأنه عاشق مفارق.
فقالت لها السيدة مريم: بأي علامة عرفتِ أنه عاشق مفارِق؟ فقالت لها بنت الوزير: أيتها
الملكة، عرفتُ ذلك بإنشاده القصائد والأشعار آناءَ الليل وأطراف النهار. فقالت السيدة
مريم
في نفسها: إنْ كان قول بنت الوزير بيقين، فهذه صفات الكئيب المسكين علي نور الدين، فيا
هل
تُرَى هو ذلك الشاب الذي ذكرَتْه بنت الوزير؟ ثم إن السيدة مريم زاد بها العشق والهيام،
والوَجْد والغرام، فقامت من وقتها وساعتها ومشَتْ مع بنت الوزير إلى الشباك ونظرت منه،
فرأتْ محبوبها وسيدها نور الدين، ودقَّقَتِ النظر فيه فعرفته حق المعرفة، ولكنه سقيمٌ
من
كثرة عشقه لها ومحبته إياها، ومن نار الوَجْد وألم الفراق والوَلَه والاشتياق، قد زاد
به
النحول فصار ينشد ويقول:
الْقَلْبُ مَمْلُوكٌ وَعَيْنِي جَارِيَهْ
لَيْسَ لَهَا سَحَابَةٌ مُجَارِيَهْ
بَيْنَ بُكَائِي وَسُهَادِي وَالْجَوَى
وَالنَّوْحُ وَالْحُزْنُ عَلَى أَحْبَابِيَهْ
وَا حُرْقَتِي وَا حَسْرَتِي وَا لَوْعَتِي
تَكَامَلَتْ أَعْدَادُهَا ثَمَانِيَهْ
وَتَابَعَتْهَا خَمْسَةٌ فِي خَمْسَةٍ
أَلَا قِفُوا وَاسْتَمِعُوا مَقَالِيَهْ
ذِكْرٌ وَفِكْرٌ وَزَفِيرٌ وَضَنًى
وَفَرْطُ شَوْقٍ وَاشْتِغَالُ بَالِيَهْ
فِي مِحْنَةٍ وَغُرْبَةٍ وَصَبْوَةٍ
وَلَهْفَةٍ وَفَرْحَةٍ تَرَانِيَهْ
قَلَّ اصْطِبَارِي وَاحْتِمَالِي لِلْجَوَى
لَمَّا نَأَى صَبْرِي دَنَا مُحَالِيَهْ
قَدْ زَادَ فِي قَلْبِي تَبَارِيحَ الْجَوَى
يَا سَائِلًا عَنْ نَارِ قَلْبِي مَا هِيَهْ
مَا بَالُ دَمْعِي مُوقَدًا فِي مُهْجَتِي
فَنَارُ قَلْبِي لَا تَزَالُ حَامِيَهْ
أَصْبَحْتُ فِي طُوفَانِ دَمْعِي غَارِقًا
وَمِنْ لَظَى هَذَا الْهَوَى فِي هَاوِيَهْ
فلما رأت السيدة مريم سيدها نور الدين وسمعت بليغَ شِعْره وبديع نَثْره، وتحقَّقَتْ
أنه
هو، ولكنها كتمت أمرها عن بنت الوزير وقالت لها: وحق المسيح والدين الصحيح، ما كنتُ أحسب
أن
عندك خبرًا بضِيق صدري. ثم نهضت من وقتها وساعتها وقامت من الشباك ورجعت إلى مكانها،
ومضت
بنت الوزير إلى شغلها، ثم صبرت السيدة مريم ساعةً زمانية ورجعت إلى الشباك وجلسَتْ فيه،
وصارت تنظر إلى سيدها نور الدين وتتأمَّل في لطفه ورقة معانيه، فرأته كالبدر إذا بدَرَ
في
ليلة أربعة عشر، لكنه دائمُ الحسرات جاري العَبَرات؛ لأنه تذكَّرَ ما فات، فأنشد هذه
الأبيات:
أَمِّلْتُ وَصْلَ أَحِبَّتِي مَا نِلْتُهُ
أَبَدًا وَمُرُّ الْعَيْشِ قَدْ وَاصَلْتُهُ
دَمْعِي يُحَاكِي الْبَحْرَ فِي جَرَيَانِهِ
وَإِذَا رَأَيْتُ عَوَاذِلِي كَفْكَفْتُهُ
آهٍ عَلَى دَاعٍ دَعَا بِفِرَاقِنَا
لَوْ نُلْتُ مِنْهُ لِسَانَهُ لَقَطَعْتُهُ
لَا عَتْبَ لِلْأَيَّامِ فِي أَفْعَالِهَا
مَزَجَتْ بِصَرْفِ الْمُرِّ مَا جُرِّعْتُهُ
فَلِمَنْ أَسِيرُ إِلَى سِوَاكُمْ قَاصِدًا
وَالْقَلْبُ فِي عَرَصَاتِكُمْ خَلَّفْتُهُ
مَنْ مُنْصِفِي مِنْ ظَالِمٍ مُتَحَكِّمٍ
يَزْدَادُ ظُلْمًا كُلَّمَا حَكَّمْتُهُ
مَلَّكْتُهُ رُوحِي لِيَحْفَظَ مُلْكَهُ
فَأَضَاعَنِي وَأَضَاعَ مَا مَلَّكْتُهُ
أَنْفَقْتُ عُمْرِي فِي هَوَاهُ وَلَيْتَنِي
أُعْطَى وِصَالًا بِالَّذِي أَنْفَقْتُهُ
يَا أَيُّهَا الرَّشَأُ الْمُلِمُّ بِمُهْجَتِي
يَكْفِي مِنَ الْهِجْرَانِ مَا قَدْ ذُقْتُهُ
أَنْتَ الَّذِي جَمَعَ الْمَحَاسِنَ وَجْهُهُ
لَكِنْ عَلَيْهِ تَصَبُّرِي فَرَّقْتُهُ
أَحْلَلْتُهُ قَلْبِي فَحَلَّ بِهِ الْبَلَا
إِنِّي لَرَاضٍ بِالَّذِي أَحْلَلْتُهُ
وَجَرَتْ دُمُوعِي مِثْلَ بَحْرٍ زَاخِرٍ
لَوْ كُنْتُ أَعْرِفُ مَسْلَكًا لَسَلَكْتُهُ
وَخَشِيتُ خَوْفًا أَنْ أَمُوتَ بِحَسْرَةٍ
وَيَفُوتَ مِنِّي كُلُّ مَا أَمَّلْتُهُ
فلما سمعت مريم من نور الدين العاشِق المفارِق المسكين إنشادَ هذه الأشعار، حصل عندها
من
كلامه إشعار، فأفاضت دموعَ العين وأنشدت هذين البيتين:
تَمَنَّيْتُ مَنْ أَهْوَى فَلَمَّا لَقِيتُهُ
ذُهِلْتُ فَلَمْ أَمْلُكْ لِسَانًا وَلَا طَرْفًا
وَكُنْتُ مُعِدًّا لِلْعِتَابِ دَفَاتِرًا
فَلَمَّا اجْتَمَعْنَا مَا وَجَدْتُ وَلَا حَرْفَا
فلما سمع نور الدين كلام السيدة مريم عرفها، فبكى بكاءً شديدًا وقال: والله إن هذه
نغمة
السيدة مريم الزنارية بلا شك ولا ريب ولا رجم الغيب. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن
الكلام المباح.