فلما كانت الليلة ٨٨٩
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن نور الدين لما سمعها تنشد الأشعار قال في نفسه: إن هذه نغمة السيدة مريم بلا شك ولا ريب ولا رجم غيب، فيا تُرَى هل ظنِّي صحيح وأنها هي بعينها أم غيرها؟ ثم إن نور الدين زادت به الحسرات، فتأوَّهَ وأنشد هذه الأبيات:
فلما فرغ من شعره أحضرَتِ السيدة مريم دواةً وقرطاسًا، وكتبت فيه بعد البسملة الشريفة: «أما بعد، فسلام الله عليك ورحمته وبركاته، وأخبرك أن الجارية مريم تسلِّم عليك، وهي كثيرة الشوق إليك، وهذه مراسلتها إليك، فساعة وقوع هذه الورقة بين يديك، انهض من وقتك وساعتك واهتم بما تريده منك غاية الاهتمام، والحذرَّ كلَّ الحذرِ من المخالَفة ومن أن تنام، فإذا مضى ثلث الليل الأول، فإن تلك الساعة من أسعد الأوقات، فلا يكون لك فيها شغل إلا أن تشد الفرسين وتخرج بهما خارج المدينة، وكل مَن قال لك: أين أنت رائح؟ فقُلْ له: أنا رائح أسيِّرهما. فإذا قلتَ ذلك لا يمنعك أحدٌ، فإن أهل هذه المدينة واثقون بقفل الأبواب.»
ثم إن السيدة مريم لفَّتِ الورقة في منديل حرير ورمَتْها إلى نور الدين من الشباك، فأخذها وقرأها وفهم ما فيها وعرف أنه خط السيدة مريم، فقبَّلها ووضعها بين عينَيْه، وتذكَّر ما حصل له معها من طيب الوصال، فأسال دمعَ العين وأنشد هذين البيتين:
ثم إن نور الدين لما جنَّ عليه الليل، اشتغل بإصلاح الحِصانين، وصبر حتى مضى من الليل ثلثه الأول، ثم قام من وقته وساعته إلى الحِصانين، ووضع عليهما سرجَيْن من أحسن السروج، وخرج بها من باب الإصطبل وقفل الباب وسار بهما إلى باب المدينة، وجلس ينتظر السيدة مريم.
هذا ما كان من أمر نور الدين، وأما ما كان من أمر الملكة مريم، فإنها ذهبت من وقتها وساعتها إلى المجلس الذي هو مُعَدٌّ لها في ذلك القصر، فوجدَتِ الوزير الأعور جالسًا في ذلك المجلس متَّكِئًا على مخدة محشوَّة من ريش النعام، وهو مستحٍ أن يمدَّ يده إليها أو يخاطبها، فلما رأته ناجَتْ ربها في قلبها وقالت: اللهم لا تبلغه مني أرَبًا، ولا تحكم عليَّ بالنجاسة بعد الطهارة. ثم أقبلَتْ عليه وأظهرَتْ له المودَّة، وجلست في جانبه ولاطفَتْه وقالت له: يا سيدي، ما هذا الإعراض عنَّا؟ هل هو منك تِيهٌ ودلالٌ علينا؟ ولكن صاحب المثل السائر يقول: «إذا بار السلام سلمت القعود على القيام.» فإنْ كنتَ يا سيدي ما تجيء عندي وتخاطبني، أجيء أنا عندك وأخاطبك. فقال لها الوزير: الفضل والجميل لك يا ملكة الأرض في الطول والعرض، وهل أنا إلا من بعض خدَّامك وأقل غلمانك؟ وإنما أنا مستحٍ أن أتهجَّمَ على مخاطبتك الفخيمة أيتها الدرة اليتيمة، ووجهي منك في الأرض. فقالت له: دَعْنا من هذا الكلام وآتنا بالمأكل والمشرب. فعند ذلك صاح الوزير على جواريه وخَدَمه، وأمرهم بإحضار المأكل والمشرب، فقدَّموا له سفرة فيها ما درَجَ وطار وسبح في البحار، من قطا وسُمَّان وأفراخ الحمام، ورضيع الضأن وإوز سمين، وفيها دجاج محمَّر وفيها سائر الأشكال والألوان. فمدَّتِ السيدة مريم يدها إلى السفرة وأكلت وصارت تلقِّمُ الوزير وتبوِّسه في فمه، وما زالَا يأكلان حتى اكتفَيَا من الأكل، ثم غسَلَا أيديهما، وبعد ذلك رفع الخدم سفرةَ الطعام وأحضروا سفرةَ المُدَام، فصارت مريم تملأ وتشرب وتسقيه، وقامت بخدمته حق القيام حتى كاد أن يطير قلبه من الفرح، واتسع صدره وانشرح، فلما غاب عقله عن الصواب، وتمكَّنَ منه الشراب، مدَّتْ يدها إلى جيبها وأخرجَتْ منه قرصًا من البنج البكر المغربي، الذي إذا شمَّ منه الفيلُ أدنى رائحةٍ نام من العام إلى العام، كانت أعَدَّتْه لهذه الساعة، ثم غافلَتِ الوزيرَ وفركته في القدح وملأته وأعطته إياه، فطارَ عقله من الفرح وما صدَّقَ أنها تناوله إياه، فأخذ القدح وشربه، فما استقرَّ في جوفه حتى خرَّ صريعًا على الأرض في الحال، فقامت السيدة مريم على قدمَيْها وعمدت إلى خُرْجَيْن كبيرين وملأتهما مما خفَّ حمله وغلا ثمنه، من الجواهر واليواقيت وأصناف المعادن المثمنة، ثم حملت معها شيئًا من المأكل والمشرب، ولبستْ آلة الحرب والكفاح من العدة والسلاح، وأخذت معها لنور الدين ما يسرُّه من الملابس الملوكية الفاخرة وأُهْبة السلاح القاهرة، ثم إنها رفعت الخُرْجَيْن على أكتافها وخرجت من القصر، وكانت ذات قوة وشجاعة، وتوجَّهَتْ إلى نور الدين. هذا ما كان من أمر مريم، وأما ما كان من أمر نور الدين … وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.