فلما كانت الليلة ٨٩٠
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن مريم لما خرجت من القصر توجَّهَتْ إلى نور الدين، وكانت ذات قوة وشجاعة. هذا ما كان من أمر مريم، وأما ما كان من أمر نور الدين العاشق المسكين، فإنه قعد على باب المدينة ينتظرها ومقاود الحِصانَيْن في يده، فأرسَلَ الله عز وجل عليه النوم، فنام وسبحان مَن لا ينام، وكانت ملوك الجزائر في ذلك الزمان يبذلون المال رشوةً على سرقة هذين الحِصانَيْن أو واحد منهما، وكان موجودًا في تلك الأيام عبدٌ أسود تربَّى في الجزائر يُعرَف بسرقة الخيل، فصار ملوك الإفرنج يرشونه بمال كثير لأجل أن يسرق أحد الحِصانَيْن، ووعدوه أنه إنْ سرق الحِصانَيْن يعطوه جزيرةً كاملةً، ويخلعوا عليه خِلَعًا سنيَّة، وقد كان لذلك العبد زمان طويل يدور في مدينة إفرنجة وهو متخفٍّ، فلم يقدر على أخذ الحِصانَيْن وهما عند الملك، فلما وهبهما للوزير الأعور ونقلهما إلى إصطبله، فرح العبدُ فرحًا شديدًا وطمع في أخذهما وقال: وحق المسيح والدين الصحيح لَأسرقنهما.
ثم إن العبد خرج في تلك الليلة قاصدًا ذلك الإصطبل ليسرق الحِصانَيْن، فبينما هو ماشٍ في الطريق؛ إذ لاحَتْ منه التفاتة فرأى نور الدين نائمًا ومقاود الحِصانَيْن في يده، فنزع المقاوِد من رأسَيْهما وأراد أن يركب واحدًا ويسوق الآخَر قدامه، وإذا بالسيدة مريم قد أقبلَتْ وهي حاملة الخُرْجَيْن على كتفها، فظنَّتْ أن العبد هو نور الدين، فناولَتْه أحد الخُرْجَيْن فوضعه على الحصان، ثم ناولَتْه الثاني فوضعه على الحصان الآخَر وهو ساكت وهي تظن أنه نور الدين، ثم إنها خرجت من باب المدينة والعبد ساكت، فقالت له: يا سيدي نور الدين، ما لك ساكت؟ فالتفَتَ العبد إليها وهو مغضب وقال لها: أي شيء تقولين يا جارية؟ فسمعت بربرة العبد، فعرفت أنها غير لغة نور الدين، فرفعت رأسها إليه ونظرته فوجدت له مناخير كالإبريق، فلما نظرته صار الضياء في وجهها ظلامًا. فقالت له: مَن تكون يا شيخ بني حام؟ وما اسمك بين الأنام؟ فقال لها: يا بنت اللئام، أنا اسمي مسعود سرَّاق الخيل والناس نيام. فما ردَّتْ عليه بشيء من الكلام، بل جرَّدَتْ من وقتها الحسام وضربته على عاتقه، فطلع يلمع من علائقه، فوقع صريعًا على الأرض يختبط في دمه، وعجَّلَ الله بروحه إلى النار وبئس القرار.
فعند ذلك أخذَتِ السيدةُ مريم الحِصانَيْن وركبت واحدًا منهما، وقبضَتِ الآخرَ بيدها ورجعت على عقبها تفتِّش على نور الدين، فلقيَتْه راقدًا في المكان الذي واعدَتْه بالاجتماع فيه، والمقاود في يده وهو نائم يغطُّ في نومه، ولم يعرف يدَيْه من رجليه، فنزلت عن ظهر الحصان ولكزته بيدها، فانتبه من نومه مرعوبًا، وقال لها: يا سيدتي، الحمد لله على مجيئك سالمة. فقالت له: قُمِ اركَبْ هذا الحصان وأنت ساكت. فقام وركب الحصان والسيدة مريم ركبت الحصان الثاني، وخرجَا من المدينة وسارَا ساعة زمانية، وبعد ذلك التفتَتْ مريم إلى نور الدين وقالت له: أَمَا قلتُ لكَ لا تَنَمْ؟ فإنه لا أفلَحَ مَن ينام. فقال: يا سيدتي، أنا ما نمتُ إلا من برد فؤادي بميعادك، وأي شيء جرى يا سيدتي؟ فأخبرَتْه بحكاية العبد من المبتدأ إلى المنتهى، فقال لها نور الدين: الحمد لله على السلامة، ثم جدَّا في إسراع المسير، وقد أسلمَا أمرهما إلى اللطيف الخبير، وصارَا يتحدثان حتى وصلَا إلى العبد الذي قتلَتْه السيدة مريم، فرآه مرميًّا في التراب كأنه عفريت، فقالت مريم لنور الدين: انزل جرِّدْه من ثيابه وخُذْ سلاحَه. فقال لها: يا سيدتي، والله أنا لا أقدر أن أنزل عن ظهر الحصان ولا أقف عنده ولا أتقرَّب منه. وتعجَّبَ نور الدين من خلقته، وشكر السيدة مريم على فعلها، وتعجَّبَ من شجاعتها وقوة قلبها، ثم سارَا ولم يزالَا سائرين سيرًا عنيفًا بقية الليل إلى أن أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح، وانتشرَتِ الشمسُ على الروابي والبطاح، فوصلَا إلى مرج أفيح فيه الغزلان تمرح، وقد اخضرَّتْ منه الجوانب وتشكَّلَتْ فيه الأثمار من كل جانب، وأزهاره كبطونِ الحيَّات والطيورُ فيه عاكفات، وجداوله تجري مختلفة الصفات، كما قال فيه الشاعر وأجاد، ووفَّى بالمراد:
وكما قال الآخَر:
فعند ذلك نزلت السيدة مريم هي ونور الدين ليستريحَا في ذلك الوادي. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.