فلما كانت الليلة ٨٩١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السيدة مريم ونور الدين لمَّا نزلَا في ذلك الوادي أكلَا من أثماره، وشربَا من أنهاره، وأطلقَا الحِصانَيْن يأكلان في المرعى، فأكلَا وشربَا من ذلك الوادي، وجلس نور الدين هو ومريم يتحدَّثان ويتذكران حكايتهما وما جرى لهما، وكلٌّ منهما يشكو لصاحبه ما لاقاه من ألم الفراق، وما قاساه من البُعْد والاشتياق، فبينما هما كذلك وإذا بغبار قد ثار حتى سدَّ الأقطار، وسمعَا صهيلَ الخيل وقعقعة السلاح، وكان السبب في ذلك أن الملك لما زوَّجَ ابنته للوزير ودخل عليها في تلك الليلة وأصبح الصباح، أراد الملك أن يصبِّح عليها كما جرت به العادة عند الملوك في بناتهم، فقام وأخذ معه أقمشة الحرير ونثر الذهب والفضة ليتخاطفها الخَدَمة والمواشط، ولم يزل الملك يتمشى هو وبعض الغلمان إلى أن وصل إلى القصر الجديد، فوجد الوزير مرميًّا على الفرش لا يعرف رأسه من رجلَيْه، فالتفت الملك في القصر يمينًا وشمالًا فلم يَرَ ابنته فيه، فتكدَّرَ حاله واشتغل باله وأمر بإحضار الماء السخن والخل البكر والكندر، فلما أحضروا له ذلك خلطها ببعضها وسعَطَ الوزير بهم، ثم هزَّهَ فخرج البنج من جوفه كقطع الجبن. ثم إن الملك سعَطَ الوزير بذلك ثاني مرة فانتبه، فسأله عن حاله وعن حال ابنته مريم، فقال له: أيها الملك الأعظم، لا عِلْمَ لي بها، غير أنها أسقتني قدحًا من الخمر بيدها، فمن ذلك الوقت ما عرفت روحي إلا في هذه الساعة، ولا أعلم ما كان من أمرها. فلما سمع الملك كلام الوزير، صار الضياء في وجهه ظلامًا، وسحب السيف وضرب به الوزير على رأسه، فخرج يلمع من أضراسه، ثم إن الملك أرسَلَ من وقته وساعته إلى الغلمان والسيَّاس، فلما حضروا طلب منهم الحِصانَيْن، فقالوا له: أيها الملك، إن الحِصانَيْن فُقِدَا في هذه الليلة، وكبيرنا فُقِد معهما أيضًا، فإننا أصبحنا وجَدْنا الأبوابَ كلها مفتوحةً. فقال الملك: وحقِّ ديني وما يعتقده يقيني، ما أخذ الحِصانَيْن إلا ابنتي هي والأسير الذي كان يخدم الكنيسة، وكان قد أخذها في المرة الأولى، وعرفته حقَّ المعرفة ولم يخلِّصه من يدي إلا هذا الوزير الأعور، وقد جُوزِي بفعله.
ثم إن الملك دعَا في الوقت بأولاده الثلاثة، وكانوا أبطالًا شجعانًا، كل واحد منهم يقوم بألف فارس في حومة الميدان، ومقام الضرب والطِّعَان، ثم صاح الملك عليهم وأمرهم بالركوب، فركبوا وركب الملك بجملتهم مع خواصِّ بطارقته وأرباب دولته وأكابرهم، وصاروا يتَّبِعون أثرهما، فلحقوهما في ذلك الوادي، فلما رأَتْهم مريم نهضَتْ وركبت جوادها، وتقلَّدَتْ بسيفها وحملت آلةَ سلاحها، وقالت لنور الدين: ما حالك؟ وكيف قلبك في القتال والحرب والنزال؟ فقال لها: إن ثَباتي في النِّزال مثل ثبات الوتد في النخال. ثم أنشد وقال:
فلما سمعت مريم من نور الدين هذا الكلام والشعر والنظام، أظهرت له الضحك والابتسام، وقالت له: يا سيدي نور الدين، استقِمْ مكانك وأنا أكفيك شرَّهم، ولو كانوا عددَ الرمل. ثم إنها تهيَّأَتْ من وقتها وساعتها، وركبت ظهر جوادها، وأطلقَتْ من يدها طرفَ العِنَان، وأدارت من الرمح جهةَ السِّنان، فخرج ذلك الحصان من تحتها كأنه الريح الهبوب، أو الماء إذا اندفق من ضيق الأنبوب، وقد كانت مريم أشجع أهل زمانها وفريدة عصرها وأوانها؛ لأن أباها علَّمَها وهي صغيرةٌ الركوبَ على ظهر الخيل، وخوْضَ بحار الحرب في ظلام الليل، وقالت لنور الدين: اركب جوادَك وكُنْ خلف ظهري، وإذا انهزمنا فاحرص على نفسك من الوقوع، فإن جوادك ما يلحقه لاحق. فلما نظر الملك إلى ابنته مريم، عرفها غايةَ المعرفة والتفَتَ إلى ولده الأكبر وقال له: يا برطوط، يا ملقَّب برأس القلوط، إن هذه أختك مريم لا شكَّ فيها ولا ريب، قد حملت علينا وطلبت حرْبَنا وقتالنا، فابرزْ إليها واحملْ عليها، وحقِّ المسيح والدين الصحيح إنك إنْ ظفرت بها لا تقتلها حتى تعرض عليها دينَ النصارى، فإن رجعَتْ إلى دينها القديم فارجعْ بها أسيرة، وإن لم ترجع إليه فاقتلها أقبحَ قِتْلة، ومثِّلْ بها أشنع مُثْلة، وكذلك هذا الملعون الذي معها مثِّلْ به أقبح مُثْلة. فقال له برطوط: السمع والطاعة. ثم برز لأخته مريم من وقته وساعته، وحمل عليها فلاقَتْه وحملت عليه ودَنَتْ منه وتقرَّبَتْ إليه، فقال لها برطوط: يا مريم، أَمَا يكفي ما جرى منك حيث تركتِ دينَ الآباء والأجداد، واتَّبعتِ دينَ السيَّاحين في البلاد؟ (يعني دين الإسلام)، ثم قال: وحق المسيح والدين الصحيح، إنْ لم ترجعي إلى دين آبائك وأجدادك من الملوك، وتسلكي فيه أحسن السلوك، لَأقتلَنَّك شرَّ قِتْلة وأمثِّل بك أقبح مُثْلة. فضحكَتْ مريم من كلام أخيها وقالت: هيهاتَ هيهاتَ أن يعود ما فات، أو يعيش مَن مات، بل أُجرِّعك أشدَّ الحسرات، أنا والله لستُ براجعةٍ عن دين محمد بن عبد الله الذي عَمَّ هُدَاه، فإنه هو الدين الحق، فلا أترك الهدى ولو سُقِيتُ كئوسَ الرَّدَى. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.