فلما كانت الليلة ٨٩٢
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن مريم قالت لأخيها: هيهاتَ هيهاتَ أن أرجع عن دين محمد بن عبد الله، الذي عمَّ هُدَاه، فإنه دين الهدى، ولو سُقِيتُ كئوسَ الرَّدَى. فلما سمع الملعون برطوط من أخته هذا الكلام، صار الضياء في وجهه ظلامًا، وعظُمَ ذلك عليه وكبُرَ لديه، والتهب بينهما القتال، واشتدَّ الحرب والنزال، وغاص الاثنان في الأودية العِرَاض الطوال، وصبرَا على الشدائد وشَخَصت لهما الأبصار، فأخذهما الانبهار، ثم جالَا مليًّا واعتركَا طويلًا، وصار برطوط كلما يفتح لأخته مريم بابًا من الحرب، تُبطِله عليه وتسدُّه بحُسْن صناعتها وقوة براعتها ومعرفتها وفروسيتها، ولم يزالَا على تلك الحالة حتى انعقَدَ على رأسيهما الغبار، وغاب الفارسان عن الأبصار، ولم تزل مريم تحاوله وتسدُّ عليه طريقه حتى كلَّ وبطلت همته، واضمحلَّ عزمه وضعُفَتْ قوَّته، فضربته بالسيف على عاتقه فخرج من علائقه، وعجَّلَ الله بروحه إلى النار وبئس القرار.
ثم إن مريم جالَتْ في حومة الميدان وموقف الحرب والطِّعان، وطلبت البِراز وسألت الإنجاز. وقالت: هل من مقاتل؟ هل من مناجِز؟ لا يبرز لي اليومَ كسلان ولا عاجز، لا يبرز لي إلا أبطال أعداء الدين لأسقيهم كأسَ العذاب المهين، يا عبَدةَ الأوثان وذوي الكفر والطغيان، هذا يوم تبيضُّ فيه وجوه أهل الإيمان، وتسودُّ وجوه أهل الكفر بالرحمن. فلما رأى الملك ولده الكبير قد قُتِل، لطم على وجهه وشقَّ أثوابه، وصاح على ولده الوسطاني وقال له: يا برطوس، يا ملقَّب بخرء السوس، ابرز يا ولدي بسرعة إلى قتال أختك مريم، وخذ منها ثأر أخيك برطوط، وائتني بها أسيرة ذليلة حقيرة. فقال له: يا أبتِ، السمع والطاعة. ثم إنه برز لأخته مريم وحمل عليها، فلاقَتْه وحملَتْ عليه، فتقاتلَتْ هي وإياه قتالًا شديدًا أشدَّ من القتال الأول، فرأى أخوها الثاني نفسَه عاجزًا عن قتالها، فأراد الفرار والهروب، فلم يمكنه ذلك من شدة بأسها؛ لأنها كلما ركن إلى الفرار تقرَّبَتْ منه ولاصقَتْه وضايقَتْه، ثم ضربته بالسيف على رقبته، فخرج يلمع من لبِّه، وألحقَتْه بأخيه.
وبعد ذلك جالَتْ في حومة الميدان وموقف الحرب والطِّعان، وقالت: أين الفرسان والشجعان؟ أين الوزير الأعور الأعرج صاحب الدين الأعوج؟ فعند ذلك صاح أبوها بقلب جريح، وطرْفٍ من الدمع قريح، وقال: إنها قتلَتْ ولدي الأوسط، وحقِّ المسيح والدين الصحيح. ثم إنه صاح على ولده الصغير وقال له: يا فسيان، يا ملقَّب بسلح الصبيان، اخرج يا ولدي إلى قتال أختك وخُذْ منها ثأرَ أخوَيْك وصادِمْها، إما لك أو عليك، وإنْ ظفرتَ بها فاقتلْها أقبح قِتْلة. فعند ذلك برز لها أخوها الصغير وحمل عليها، فنهضت إليه ببراعتها، وحملت عليه بحُسْن صناعتها وشجاعتها ومعرفتها بالحرب وفروسيتها، وقالت له: يا عدو الله وعدو المسلمين، لَألحقنَّك بأخوَيْك وبئس مَثْوى الكافرين. ثم إنها جذبَتْ سيفها من غِمْده وضربته، فقطعت عنقه وذراعَيْه وألحقَتْه بأخوَيْه، وعجَّلَ الله بروحه إلى النار وبئس القرار. فلما رأى البطارقة والفرسان الذين كانوا راكبين مع أبيها أولاده الثلاثة قد قُتِلوا وكانوا أشجعَ أهلِ زمانهم، وقع في قلوبهم الرعب من السيدة مريم وأدهشتهم الهيبة، ونكَّسُوا رءوسَهم إلى الأرض وأيقنوا بالهلاك والدمار، والذل والبوار، واحترقت قلوبهم من الغيظ بلهيب النار، فولَّوا الأدبار وركنوا إلى الفرار.
فلما نظر الملك إلى أولاده وقد قُتِلوا، وإلى عساكره وقد انهزموا، أخذته الحيرة والانبهار، واحترق قلبه بلهيب النار، وقال في نفسه: إن السيدة مريم قد استقلَّتْ بنا، وإن جازفتُ بنفسي وبرزتُ إليها وحدي، ربما غلبَتْ عليَّ وقهرتني فتقتلني أشنع قِتْلة، وتمثِّل بي أقبح مُثْلة كما قتلَتْ إخوتها؛ لأنها لم يَبْقَ لها فينا رجاء، ولا لنا في رجوعها طمع، والرأي عندي أن أحفظ حرمتي وأرجع إلى مدينتي. ثم إن الملك أرخى عِنان فَرَسه، ورجع إلى مدينته، فلما استقرَّ في قصره انطلقَتْ في قلبه النار من أجل قتل أولاده الثلاثة، وانهزام عسكره وهتك حرمته، فما استقرَّ نصف ساعة حتى طلب أربابَ دولته وكبراء مملكته، وشكا إليهم فِعْلَ ابنته مريم معه، من قتلها لإخوتها، وما لاقاه من القهر والحزن، واستشارهم، فأشاروا عليه كلهم أن يكتب كتابًا إلى خليفة الله في أرضه أمير المؤمنين هارون الرشيد، ويُعلِمه بهذه القضية. فكتب إلى الرشيد مكتوبًا مضمونه: «بعد السلام على أمير المؤمنين، إنَّ لنا بنتًا اسمها مريم الزنارية، قد أفسَدَها علينا أسيرٌ من أسرى المسلمين اسمه نور الدين علي ابن التاجر تاج الدين المصري، وأخذها ليلًا وخرج بها إلى ناحية بلاده، وأنا أسأل من فضل مولانا أمير المؤمنين أن يكتب إلى سائر بلاد المسلمين بتحصيلها وإرسالها إلينا مع رسول أمين.» وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.