فلما كانت الليلة ٨٩٣
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ملك إفرنجة لما كتب إلى الخليفة أمير المؤمنين هارون الرشيد كتابًا يتضرَّع إليه فيه بطلب ابنته مريم، ويسأله من فضله أن يكتب إلى سائر بلاد المسلمين بتحصيلها وإرسالها مع رسول أمين، من خدَّام حضرة أمير المؤمنين، ومن جملة مضمون ذلك الكتاب: «إننا نجعل لكم في نظير مساعدتكم لنا على هذا الأمر، نصفَ مدينة رومة الكبرى لتبنوا فيها مساجد للمسلمين، ويُحمَل إليكم خَراجُها.» وبعد أن كتب الكتاب برأي أهل مملكته وكبراء دولته، طواه ودعا بوزيره الذي جعله وزيرًا مكان الوزير الأعور، وأمره أن يختم الكتاب بختم الملك، وكذلك ختمه أربابُ دولته بعد أن وضعوا خطوط أيديهم فيه، ثم قال لوزيره: إن أتيتَ بها فلك عندي إقطاعُ أميرَيْن، وأخلع عليك خِلْعة بطرزين. ثم ناوَلَه الكتابَ وأمره أن يسافر إلى مدينة بغداد دار السلام، ويوصل الكتاب إلى أمير المؤمنين من يده إلى يده. ثم سافر الوزير بالمكتوب، وسار يقطع الأودية والقفار حتى وصل إلى مدينة بغداد، فلما دخلها مكث فيها ثلاثة أيام حتى استقرَّ واستراح، ثم سأل عن قصر أمير المؤمنين هارون الرشيد فدلُّوه عليه، فلما وصل إليه طلَبَ إذنًا من أمير المؤمنين في الدخول عليه، فأُذِنَ له في ذلك، فدخل عليه وقبَّلَ الأرض بين يدَيْه، وناوَلَه الكتابَ الذي من مَلِك إفرنجة، وصحبته من الهدايا والتُّحَف العجيبة ما يليق بأمير المؤمنين، فلما فتح الخليفة المكتوب وقرأه وفهم مضمونه، أمر وزراءه من وقته أن يكتبوا المكاتيب إلى سائر بلاد المسلمين، ففعلوا ذلك وبيَّنوا في المكاتيب صفة مريم وصفة نور الدين، واسمه واسمها، وأنهما هاربان، فكلُّ مَن وجدهما فَلْيقبض عليهما ويرسلهما إلى أمير المؤمنين، وحذَّروهم من أن يعطوا في ذلك إمهالًا أو إهمالًا أو غفلة، ثم خُتِمت الكتبُ وأُرسِلت مع السعاة إلى العمَّال، فبادروا في امتثال الأمر، وساروا يفتِّشون في سائر البلاد على مَن يكون بهذه الصفة.
هذا ما كان من أمر هؤلاء الملوك وأتباعهم، وأما ما كان من أمر نور الدين المصري ومريم الزنارية بنت ملك إفرنجة، فإنهما ركِبَا بعد انهزام الملك وعساكره من وقتهما وساعتهما، وسارَا إلى بلاد الشام، وقد ستر عليهما الستَّار، فوصَلَا إلى مدينة دمشق، وكانت الطوالع التي أرسلها الخليفة قد سبقتهما إلى دمشق بيوم، فعلم أمير دمشق أنه مأمورٌ بالقبض عليهما متى وجدهما ليُحضِرهما بين يدَيِ الخليفة، فلما كان يوم دخولهما إلى دمشق، أقبَلَ عليهما الجواسيس فسألوهما عن اسمهما، فأخبراهم بالصحيح، وقصَّا عليهم قصتهما وجميع ما جرى عليهما، فعرفوهما وقبضوا عليهما، وأخذوهما وساروا بهما إلى أمير دمشق، فأرسلهما إلى الخليفة بمدينة بغداد دار السلام، فلما وصلوا إليها استأذنوا في الدخول على أمير المؤمنين هارون الرشيد، فأذِنَ لهم، فلما دخلوا عليه قبَّلوا الأرض بين يدَيْه، وقالوا له: يا أمير المؤمنين، إن هذه مريم الزنارية بنت ملك إفرنجة، وهذا نور الدين ابن التاجر تاج الدين المصري الأسير، الذي أفسدها على أبيها وسرقها من بلاده ومملكته، وهرب بها إلى دمشق، فوجدناهما وقت دخولهما دمشق وسألناهما عن اسمَيْهما فأجابانا بالصحيح، فعند ذلك أتينا بهما وأحضرناهما بين يدَيْكَ. فنظر أمير المؤمنين إلى مريم فرآها رشيقةَ القدِّ والقوام، فصيحة الكلام، مليحة أهل زمانها، فريدة عصرها وأوانها، حلوة اللسان، ثابتة الجنان، قوية القلب، فلما وصلَتْ إليه قبَّلَتِ الأرضَ بين يدَيْه ودعَتْ له بدوام العز والنِّعَم، وزوال البؤس والنِّقَم، فأعجَبَ الخليفةَ حُسْنُ قوامها وعذوبةُ ألفاظها وسرعةُ جوابها، فقال لها: هل أنت مريم الزنارية بنت ملك إفرنجة؟ قالت: نعم يا أمير المؤمنين وإمام الموحِّدين، وحامي حومة الدين وابن عمِّ سيد المرسلين. فعند ذلك التفَتَ الخليفة فرأى عليًّا نور الدين، شابًّا مليحًا حسن الشكل كأنه البدر المنير في ليلة تمامه، فقال له الخليفة: هل أنت علي نور الدين الأسير ابن التاجر تاج الدين المصري؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين وعمدة القاصدين. فقال الخليفة: كيف أخذتَ هذه الصبية من مملكة أبيها وهربت بها؟ فصار نور الدين يحدِّث الخليفة بجميع ما جرى له من أول الأمر إلى آخِره، فلما فرغ من حديثه تعجَّبَ الخليفة من ذلك غاية العجب، وأخذه من التعجُّب فرط الطرب، وقال: ما أكثر ما يقاسيه الرجال! وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.