فلما كانت الليلة ٨٩٤
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة هارون لما سأل نور الدين عن قصته، أخبره بجميع ما جرى له من المبتدأ إلى المنتهى، فتعجَّبَ الخليفة من ذلك غايةَ العجب وقال: ما أكثر ما يقاسيه الرجال! ثم إنه التفَتَ إلى السيدة مريم وقال لها: يا مريم، اعلمي أن والدك ملك إفرنجة قد كاتَبَنا في شأنك، فما تقولين؟ قالت: يا خليفة الله في أرضه، وقائمًا بسُنَّة نبيِّه وفرْضِه، خلَّدَ الله عليك النِّعَم، وأجارك من البؤس والنِّقَم، أنت خليفة الله في أرضه، إني قد دخلتُ دينكم لأنه هو الدين القويم الصحيح، وتركت ملة الكَفَرة الذين يتكذَّبون على المسيح، وقد صرتُ مؤمنةً بالله الكريم، ومصدِّقةً بما جاء به رسوله الرحيم، أعبد الله سبحانه وتعالى وأوحِّده، وأسجد خاضعةً إليه وأمجِّده، وأنا قائلة بين يدَيِ الخليفة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، أرسَلَه بالهدى ودين الحق ليُظهِره على الدين كله ولو كره المشركون؛ فهل في وسعك يا أمير المؤمنين أن تقبل كتابَ ملك الملحدين، وتُرسِلني إلى بلاد الكافرين، الذين يشركون بالملك العلَّام، ويعظِّمون الصليب ويعبدون الأصنام، ويعتقدون إلهية عيسى وهو مخلوق؟ فإن فعلتَ بي ذلك يا خليفة الله، أتعلَّقُ بأذيالك يوم العرض على الله، وأشكوك إلى ابن عمك رسول الله ﷺ يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا مَن أتى اللهَ بقلب سليم. فقال أمير المؤمنين: يا مريم، معاذ الله أن أفعل ذلك أبدًا، كيف أردُّ امرأةً مسلمةً موحِّدةً بالله ومصدِّقةً برسوله، إلى ما نهى الله عنه ورسوله؟ فقالت مريم: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. فقال لها أمير المؤمنين: يا مريم، بارَكَ الله فيك، وزادَكِ هدايةً إلى الإسلام، وحيث كنتِ مسلمةً موحِّدةً بالله، فقد صار لك علينا حقٌّ واجب، وهو أنني لا أفرِّط فيك أبدًا، ولو بُذِل لي من أجلك ملء الأرض جواهر وذهبًا؛ فطِيبي نفسًا وقرِّي عينًا وانشرحي صدرًا، ولا يكن خاطرك إلا طيِّبًا، فهل رضيتِ أن يكون هذا الشاب علي المصري لكِ بَعْلًا وتكوني له أهلًا؟ فقالت مريم: يا أمير المؤمنين، كيف لا أرضى أن يكون لي بعلًا، وقد اشتراني بماله وأحسَنَ إليَّ غايةَ الإحسان، ومن تمام إحسانه أنه خاطَرَ بروحه من أجلي مرات عديدة. فزوَّجَها به مولانا أمير المؤمنين، وعمل لها مهرًا وأحضَرَ القاضي والشهود وأكابر دولته يوم زواجها عند كتب الكتاب، وكان يومًا مشهودًا.
ثم بعد ذلك التفَتَ أمير المؤمنين من وقته وساعته إلى وزير ملك الروم، وكان حاضرًا في تلك الساعة وقال له: هل سمعتَ كلامها؟ كيف أُرسِلها إلى أبيها الكافر وهي مسلمة موحِّدة؟ وربما ساءَها وأغلظ عليها، خصوصًا وقد قتلَتْ أولاده، فأتحمَّلُ أنا ذنبها يوم القيامة، وقد قال الله تعالى: وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، فارجع إلى مَلِكك وقُلْ له: ارجع عن هذا الأمر ولا تطمع فيه. وكان ذلك الوزير أحمق، فقال للخليفة: يا أمير المؤمنين، وحق المسيح والدين الصحيح، إني لا يمكنني الرجوع دون مريم ولو كانَتْ مسلمةً؛ لأني لو رجعتُ إلى أبيها دونها يقتلني. فقال الخليفة: خذوا هذا الملعون واقتلوه. وأنشد هذا البيت:
ثم أمر بضرب عنق الوزير الملعون وحرقه، فقالت السيدة مريم: يا أمير المؤمنين، لا تنجِّس سيفك بدم هذا الملعون. ثم جرَّدَتْ سيفها وضربَتْه به، فأطاحت رأسه عن جثته، فذهب إلى دار البوار ومأواه جهنم وبئس القرار، فتعجَّبَ الخليفة من صلابة ساعدها وقوة جنانها، ثم خلع على نور الدين خِلْعةً سنيَّة، وأفرَدَ لهما مكانًا في قصره هي ونور الدين ورتَّبَ لهما المرتبات والجوامك والعلوفات، وأمر بأن يُنقَل إليهما جميعُ ما يحتاجان إليه من الملابس والمفارش والأواني النفيسة، وأقامَا في بغداد مدةً من الزمان، وهما في أرغد عيش وأهناه.
وبعد ذلك اشتاق نور الدين إلى أمه وأبيه، فعرض الأمرَ على الخليفة وطلب منه إذنًا في التوجُّهِ إلى بلاده وزيارة أقاربه، ودعَا بمريم وأحضرها بين يدَيْه، فأجازه بالتوجُّه وأتحَفَه بالهدايا والتحف المثمنة، وأوصى مريم ونور الدين ببعضهما، ثم أمر بالمكاتيب إلى أمراء مصر المحروسة وعلمائها وكبرائها بالوصية على نور الدين هو ووالدَيْه وجاريته، وإكرامهم غاية الإكرام. فلما وصلَتِ الأخبارُ إلى مصر، فرح التاجر تاج الدين بعَوْد ولده نور الدين، وكذلك أمه فرحت بذلك غاية الفرح، وخرج للقائه الأكابر والأمراء وأرباب الدولة، من أجل وصية الخليفة، فلاقوا نور الدين، وكان لهم يوم مشهود مليح عجيب، اجتمع فيه المحب والمحبوب، واتصل الطالب بالمطلوب، وصارت الولائم كلَّ يوم على واحد من الأمراء، وفرحوا بهم الفرح الزائد، وأكرموهم الإكرام المتصاعد. فلما اجتمع نور الدين بوالدته ووالده، فرحوا ببعضهم غاية الفرح، وزال عنهم الهمُّ والتَّرَح، وكذلك فرحوا بالسيدة مريم وأكرموها غاية الإكرام، ووصلت إليهم الهدايا والتحف من سائر الأمراء والتجار العظام، وصاروا كلَّ يوم في انشراح جديد وسرور أعظم من سرور العيد. ولم يزالوا في فرح ولذات، ونِعَم جزيلة مطربات، وأكل وشرب وفرح وسرور مدةً من الزمان، إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرِّق الجماعات، ومخرِّب الدور والقصور ومعمِّر بطون القبور، فانتقلوا من الدنيا بالممات، وصاروا في عداد الأموات، فسبحان الحي الذي لا يموت، وبيده مقاليد الملك والملكوت.
حكاية الأمير شجاع الدين والمرأة الإفرنجية
ومما يُحكَى أيضًا أن الأمير شجاع الدين محمد متولي القاهرة قال: بتنا عند رجل من بلاد الصعيد فضيَّفَنا وأكرمنا، وكان ذلك الرجل أسمرَ شديدَ السُّمْرة وهو شيخ كبير، وكان له ولاد صغار بيض، بياضهم مشرَّب بحُمْرة، فقلنا: يا فلان، ما بال أولادك هؤلاء بيضًا وأنت شديد السُّمْرة؟ فقال: هؤلاء أمهم إفرنجية، أخذتها ولي معها حديث عجيب. فقلنا له: أَتْحِفْنا به. فقال: نعم، اعلموا أني قد كنتُ زرعتُ كتَّانًا في هذه البلدة وقلعته ونفضته وصرفت عليه خمسمائة دينار، ثم أردتُ بيعه فلم يجئ لي منه شيء أكثر من ذلك. فقالوا لي: اذهبْ به إلى عكاء لعلك تربح فيه ربحًا عظيمًا. وكانت عكاء ذلك الوقت في يد الإفرنج، فذهبتُ به إلى عكاء وبعتُ بعضه صبرًا إلى ستة أشهر، فبينما أنا أبيع إذ مرَّتْ بي امرأة إفرنجية، وعادةُ نساءِ الإفرنج أن تمشي في السوق بلا نقابٍ، فأتَتْ لتشتري مني كتَّانًا، فرأيتُ من جمالها ما بهر عقلي، فبعتُ لها شيئًا وتساهلت في الثمن، فأخذته وانصرفت، ثم عادت إليَّ بعد أيامٍ فبعتُ لها شيئًا وتساهلتُ معها أكثرَ من المرة الأولى، فكرَّرَتْ مجيئها لي وعرفت أني أحبها، وكان عادتها أن تمشي مع عجوز، فقلت للعجوز التي معها: إني قد شُغِفْتُ بحبها، فهل تتحيَّلين لي في الاتصال بها؟ فقالت: أتحيَّل لكَ في ذلك، ولكن هذا السر لا يخرج من بين ثلاثتنا، أنا وأنت وهي، ومع ذلك لا بد من أن تبذل مالًا. فقلتُ لها: إذا ذهبتْ رُوحي باجتماعي عليها فما هو كثير. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.