فلما كانت الليلة ٨٩٥
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز لما أجابَتْ ذلك الرجلَ، قالت له: ولكن هذا السر لا يخرج من بين ثلاثتنا، أنا وأنت وهي، ولا بد من أن تبذل مالًا. فقال لها: إذا ذهبتْ رُوحي باجتماعي عليها فما هو كثير. واتفق الحال على أن يدفع لها خمسين دينارًا وتجيء إليه، فجهَّزَ الخمسين دينارًا وسلَّمَها للعجوز. فلما أخذت الخمسين دينارًا قالت له: هيِّئ لها موضعًا في بيتك وهي تجيء إليك في هذه الليلة. ثم قال: فمضيتُ وجهَّزْتُ ما قدرتُ عليه من مأكل ومشرب وشمع وحلوى، وكانت داري مُطِلَّة على البحر، وكان ذلك في زمن الصيف، ففرشتُ على سطح الدار، وجاءت الإفرنجية فأكلنا وشربنا، وجَنَّ الليل فنمنا تحت السماء والقمر يضيء علينا، وسرنا ننظر خيالَ النجوم في البحر؛ فقلتُ في نفسي: أَمَا تستحي من الله عز وجل وأنت غريب وتحت السماء وعلى البحر وتعصي الله تعالى مع نصرانية، وتستوجب عذابَ النار؟ اللهم إني أُشهِدُكَ أني قد عففتُ عن هذه النصرانية في هذه الليلة حياءً منك وخوفًا من عقابك.
ثم إني نمتُ إلى الصبح وقامت في السَّحَر وهي غَضْبى ومضَتْ إلى مكانها، ومشيتُ أنا إلى حانوتي فجلستُ فيه، وإذا هي قد عبرَتْ عليَّ هي والعجوز وهي مُغضَبة وكأنها القمر، فهلكتُ وقلتُ في نفسي: مَن هو أنت حتى تترك هذه الجارية؟ هل أنت السَّرِيُّ السَّقَطي، أو بِشْر الحافي، أو الجُنَيْد البغدادي، أو الفُضَيْل بن عياض؟ ثم لحقتُ العجوزَ وقلتُ لها: ارجعي إليَّ بها. فقالت العجوز: وحقِّ المسيح ما ترجع إليك إلا بمائة دينار. فقلتُ: أعطيكِ مائة دينار. ثم أعطيتُها المائةَ دينار وجاءت إليَّ ثاني مرة، فلما صارت عندي رجعتُ إلى تلك الفكرة، فعففتُ عنها وتركتها لله تعالى، ثم مضيتُ ومشيتُ إلى موضعي. ثم عبرَتْ عليَّ العجوزُ وهي غَضْبى، فقلت لها: ارجعي بها إليَّ. فقالت: وحقِّ المسيح، ما بقيتَ تفرح بها عندك إلا بخمسمائة دينار وتموت كمدًا. فارتعدتُ لذلك، وعزمتُ أن أغرم ثمنَ الكتَّان جميعه وأفدي نفسي بذلك، فما شعرتُ إلا والمنادي ينادي ويقول: يا معاشر المسلمين، إن الهدنةَ التي بيننا وبينكم قد انقضَتْ، وقد أمهلنا مَن هنا من المسلمين جمعةً ليقضوا أشغالهم وينصرفوا إلى بلادهم. فانقطعَتْ عني وأخذْتُ في تحصيل ثمن الكتَّان الذي اشتراه مني الناسُ مؤجلًا والمقايَضة على ما بقي منه، وأخذت معي بضاعةً حسنةً، وخرجتُ من عكاء وأنا في قلبي من الإفرنجية ما فيه من شدة المحبة والعشق؛ لأنها أخذَتْ قلبي ومالي.
ثم خرجتُ وسرتُ حتى وصلتُ دمشقَ وبعتُ البضاعةَ التي أخذتها من عكاء بأقصى ثمنٍ لانقطاع وصولها بسبب انقضاء مدة الهدنة، ومَنَّ الله سبحانه وتعالى عليَّ بكسبٍ جيد، وصرتُ أتَّجِر في جواري السَّبْي ليذهب ما بقلبي من الإفرنجية، ولازمتُ التجارةَ فيهن، فمضَتْ عليَّ ثلاثُ سنوات وأنا بتلك الحالة، وجرى للملك الناصر مع الإفرنج ما جرى من الوقائع ونصَرَه الله عليهم وأسَرَ جميعَ ملوكهم وفتح بلاد الساحل بإذن الله تعالى، فاتفق أنه جاء رجل وطلب مني جارية للملك الناصر، وكان عندي جارية حسناء فعرضتُها عليه، فاشتراها له مني بمائة دينار، فأوصلني تسعين دينارًا وبقي لي عشرة دنانير، فلم يجدوها في خزنته ذلك اليوم؛ لأنه أنفق الأموال جميعها في حرب الإفرنج، فأخبروه بذلك، فقال الملك: امضوا به إلى خزنة السَّبْي وخيِّروه بين بنات الإفرنج ليأخذ واحدةً منهن في العشرة دنانير. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.