فلما كانت الليلة ٨٩٦
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك الناصر لما قال: خيِّروه في واحدةٍ منهن ليأخذها في العشرة دنانير التي له، أخذوني وتوجَّهوا بي إلى خزنة السَّبْي، فنظرتُ ما فيها وتأمَّلْتُ في جميع السَّبْي فرأيتُ الجاريةَ الإفرنجية التي كنتُ تعلَّقْتُ بها وعرفتها حق المعرفة، وكانت امرأةَ فارسٍ من فرسان الإفرنج، فقلتُ: أعطوني هذه. فأخذتُها ومضيتُ إلى خيمتي وقلتُ لها: أتعرفينني؟ قالت: لا. قلتُ: أنا صاحبك الذي كنتُ أتاجر في الكتَّان، وقد جرى لي معك ما جرى، وأخذتِ مني الذهب وقلتِ: ما بقيتَ تنظرني إلا بخمسمائة دينار، وقد أخذتُكِ ملكًا بعشرة دنانير. فقالت: هذا سرُّ دينك الصحيح، أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله. فأسلمَتْ وحسُنَ إسلامها، فقلتُ في نفسي: والله لا أفضي إليها إلا بعد عتقها وإطلاع القاضي. فرُحْتُ إلى ابن شداد وحكيتُ له ما جرى وعقد لي عليها، ثم بعد ذلك بتُّ معها فحملَتْ، ثم رحل العسكر وأتينا دمشق، فما كان إلا أيام قلائل وأتى رسول الملك يطلب الأسارى والسَّبْي باتفاقٍ وقَعَ بين الملوك، فرُدَّ كلُّ مَن كان أسيرًا من النساء والرجال، ولم يَبْقَ إلا المرأة التي عندي، فقالوا: إن امرأةَ الفارس فلان لم تحضر. وسألوا عنها وألَحُّوا في السؤال والكشف، فأُخبِروا بأنها عندي، فطلبوها مني، فحضرتُ وأنا في شِدَّة الوَلَه وقد تغيَّرَ لوني. فقالت لي: ما لك، وما الذي أصابك؟ فقلتُ: جاء رسول الملك يأخذ الأسارى جميعهم وطلبوكِ مني. فقالت: لا بأس عليك، أوصلني إلى الملك وأنا أعرف الذي أقوله بين يديه. قال: أخذتُها وأحضرتُها قدام السلطان الملك الناصر، ورسول ملك الإفرنج جالِسٌ على يمينه. وقلتُ: هذه المرأة التي عندي. فقال لها الملك الناصر والرسول: أتروحين إلى بلادك أم إلى زوجك؟ فقد فكَّ الله أسْرَكِ أنت وغيركِ. فقالت للسلطان: أنا قد أسلمتُ وحملتُ وها بطني كما ترون، وما بقيت الإفرنج تنتفع بي. فقال الرسول: أيما أحَبُّ إليك، أهذا المسلم أم زوجك الفارس فلان؟ فقالت له كما قالت للسلطان. فقال الرسول لمَن معه من الإفرنج: هل سمعتم كلامها؟ قالوا: نعم. ثم قال لي الرسول: خذ امرأتك وامضِ بها. فمضيتُ بها، ثم إنه أرسَلَ خلفي عاجلًا وقال: إن أمها أرسلَتْ إليها معي وديعةً وقالت: إن بنتي أسيرة وهي عريانة، ومرادي أن توصل إليها هذا الصندوق، فخذه وسلِّمْه إليها. فتسلَّمْتُ الصندوقَ ومضيتُ به إلى الدار وأعطيته لها، ففتحَتْه فرأَتْ فيه قماشها بعينه ووجدت الصرَّتَيْن الذهب والخمسين دينارًا والمائة دينار، فرأيتُ الجميعَ برباطي لم يتغيَّر منها شيء، وحمدت الله تعالى، وهؤلاء الأولاد منها، وهي تعيش إلى الآن، وهي التي عملَتْ لكم هذا الطعام. فتعجَّبْنا من حكايته وما حصل له من الحظ، والله أعلم.
حكاية الفتى البغدادي والجارية
ومما يُحكَى أنه كان في قديم الزمان رجلٌ بغدادي من أولاد أهل النِّعَم، ورث عن أبيه مالًا جزيلًا، وكان يعشق جاريةً فاشتراها وكانت تحبه كما يحبها، ولم يَزَلْ ينفق عليها إلى أن ذهب جميعُ ماله ولم يَبْقَ منه شيء، فطلب شيئًا من أسباب المعاش يتعيَّشُ فيه فلم يقدر، وكان ذلك الفتى في أيام غناه يحضر مجالس العارفين بصناعة الغناء، فبلغ فيها الغاية القصوى، فاستشار أحدَ إخوانه فقال له: أنا لا أعرف لك صنعةً أحسن من أن تغنِّي أنت وجاريتك، فتأخذ على ذلك المال الكثيرَ وتأكل وتشرب. فكَرِه ذلك هو والجارية، فقالت له جاريته: قد رأيتُ لك رأيًا. قال: وما هو؟ قالت: تبيعني ونخلص من هذه الشدة أنا وأنت، وأكون في نعمةٍ، فإن مثلي لا يشتريه إلا ذو نعمةٍ، وبذلك أكون سببًا في رجوعي إليك. فأطلَعَها إلى السوق، فكان أول مَن رآها رجلٌ هاشمي من أهل البصرة، وكان ذلك الرجل أديبًا ظريفًا كريمَ النفس، فاشتراها بألفٍ وخمسمائة دينار، قال ذلك الفتى صاحب الجارية: فلما قبضتُ الثمنَ ندمت وبكيتُ أنا والجارية، وطلبت الإقالةَ فلم يرضَ، فوضعتُ الدنانير في الكيس وأنا لا أدري أين أذهب؛ لأن بيتي موحش منها، وحصل لي من البكاء واللطم والنحيب ما لم يحصل لي قطُّ، فدخلتُ بعضَ المساجد وقعدتُ أبكي فيه، واندهشتُ حتى صرت لا أعلم بنفسي، فنمتُ وتركت الكيس تحت رأسي كالمخدة، فلم أشعر إلا وإنسان قد جذَبَه من تحت رأسي ومضى يهرول، فانتبهت فزعًا مرعوبًا فلم أجد الكيس، فقمتُ أجري خلفه وإذا برجلي مربوطةٌ في حبل، فوقعتُ على وجهي وصرتُ أبكي وألطم، وقلتُ في نفسي: فارقَتْكَ رُوحُكَ وضاع مالُكَ. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.