فلما كانت الليلة ٨٩٧
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ذلك الفتى لما ضاع منه الكيس قال: قلتُ في نفسي: فارقَتْكَ رُوحُكَ وضاعَ مالُكَ. وزاد بي الحال فجئتُ إلى الدجلة وحملت ثوبي على وجهي وألقيتُ نفسي في البحر، ففطِنَ بي الحاضرون وقالوا: إنَّ ذلك لعظيم همٍّ حصل له. فرموا أرواحهم خلفي وأطلعوني وسألوني عن أمري، فأخبرتهم بما حصل لي فتأسَّفوا لذلك، ثم جاءني شيخ منهم وقال: قد ذهب مالك وكيف تتسبَّبُ في ذهاب رُوحك فتكون من أهل النار؟ قُمْ معي حتى أرى منزلك. ففعلتُ ذلك، فلما وصلنا إلى منزلي قعد عندي ساعةً حتى سكن ما بي، فشكرته على ذلك، ثم انصرف، فلما خرج من عندي كدتُ أن أقتل رُوحي فتذكَّرْتُ الآخرةَ والنار، فخرجتُ من بيتي هاربًا إلى أحد الأصدقاء، فأخبرته بما جرى لي، فبكى رحمةً لي وأعطاني خمسين دينارًا وقال: اقبَلْ رأيي واخرج في هذه الساعة من بغداد، واجعل هذه نفقةً لكَ، إلى أن يشتغل قلبك عن حبِّها وتسلو عنها، وأنت من أولاد أهل الإنشاء والكتابة، وخطك جيد، وأدبك بارع، فاقصد مَن شئتَ من العمال واطرح نفسك عليه، لعل الله يجمعك بجاريتك. فسمعتُ منه وقد قوي عزمي وزال عني بعض همِّي، وعزمت على أني أقصد أرض واسط؛ لأن لي بها أقارب؛ فخرجتُ إلى ساحل البحر فرأيتُ سفينةً راسيةً والبحرية ينقلون إليها أمتعة وقماشًا فاخرًا، فسألتهم أن يأخذوني معهم، فقالوا: إن هذه السفينة لرجل هاشمي ولا يمكننا أخذك على هذه الصورة. فرغَّبتُهم في الأجرة، فقالوا: إن كان ولا بد فاقلع هذه الثياب الفاخرة التي عليك، والبس ثيابَ الملَّاحين واجلس معنا كأنك واحدٌ منَّا. فرجعتُ واشتريتُ شيئًا من ثياب الملاحين ولبسته وجئتُ إلى السفينة، وكانت متوجِّهةً إلى البصرة، فنزلت معهم، فما كان إلا ساعةً حتى رأيتُ جاريتي بعينها ومعها جاريتان يخدمانها، فسكن ما كان عندي من الغيظ وقلتُ في نفسي: ها أنا أراها وأسمع غناءها إلى البصرة. فما أسرع أن جاء الهاشمي راكبًا ومعه جماعة، فنزلوا في تلك السفينة وانحدرت بهم، وأخرج الطعام فأكل هو والجارية، وأكل الباقون في وسط السفينة، ثم قال الهاشمي للجارية: كم هذا التمنُّع عن الغناء ولزوم الحزن والبكاء؟ ما أنتِ أول مَن فارَقَ مَن يحب! فعلمتُ ما كان عندها من أمر حبي، ثم ضرب ساترًا على الجارية في جانب السفينة، واستدعى الذين كانوا في ناحيتي وجلس معهم خارج الستارة، فسألتُ عنهم فإذا هم إخوته، ثم أخرج لهم ما يحتاجون إليه من الخمر والنُّقْل، ولم يزالوا يحثُّون الجاريةَ على الغناء إلى أن استدعت العود وأصلحته، وأخذت تغنِّي فأنشدَتْ هذين البيتين:
ثم غلبها البكاء ورمَتِ العودَ وقطعت الغناء، فتنغَّصَ القوم ووقعتُ أنا مغشيًّا عليَّ، فظنَّ القوم أني قد صُرِعت، فصار بعضهم يقرأ في أذني، ولم يزالوا يلاطفونها ويطلبون منها الغناء إلى أن أصلحَتِ العودَ وأخذَتْ تغني، فأنشدت هذين البيتين:
ثم وقعَتْ مغشيًّا عليها وارتفع البكاء من الناس، وصرختُ أنا ووقعتُ مغشيًّا عليَّ، وضجَّ الملَّاحون مني، فقال بعض غلمان الهاشمي: كيف حملتم هذا المجنون؟ ثم قال بعضهم لبعض: إذا وصلتم إلى بعض القرى فأخرجوه وأريحونا منه. فحصل لي من ذلك همٌّ عظيمٌ وعذابٌ أليمٌ، فتجلَّدْتُ غاية التجلُّد وقلتُ في نفسي: لا حيلةَ لي في الخلاص من أيديهم، إلا إذا أعلمتُها بمكاني من السفينة لتمتنع من إخراجي. ثم سرنا حتى وصلنا إلى قرب ضيعةٍ، فقال صاحب السفينة: اصعدوا بنا إلى الشاطئ. فطلع القوم وكان ذلك وقت المساء، فقمتُ حتى صرت خلفَ الستارة، وأخذتُ العودَ وغيَّرْتُ الطرقَ طريقةً بعد طريقة، وضربتُ على الطريقة التي قد تعلَّمَتْها مني، ثم رجعتُ إلى موضعي من السفينة. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.