فلما كانت الليلة ٨٩٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الفتى قال: ثم رجعتُ إلى موضعي من السفينة، وبعد ذلك نزل القوم من الشاطئ ورجعوا إلى مواضعهم في السفينة، وقد انبسط القمر على البر والبحر، فقال الهاشمي للجارية: بالله عليك لا تنغِّصِي علينا عيشنا. فأخذت العودَ وجسته بيدها وشهقَتْ، فظنُّوا أن رُوحها قد خرجَتْ، ثم قالت: والله إن أستاذي معنا في هذه السفينة. فقال الهاشمي: والله لو كان معنا ما ضيَّعْتُه من معاشرتنا؛ لأنه ربما كان يخفِّف ما بكِ فننتفع بغنائك، ولكن كونه في السفينة أمر بعيد. فقالت: لا أقدر على ضرب العود وتقليب الأهوية ومولاي معنا. قال الهاشمي: نسأل الملَّاحين؟ فقالت: افعل. فسألهم وقال: هل حملتم معكم أحدًا؟ فقالوا: لا. فخفتُ أن ينقطع السؤال فضحكتُ وقلتُ: نعم، أنا أستاذها وعلَّمْتُها حين كنتُ سيِّدَها. فقالت: والله إن هذا كلام مولاي. فجاءني الغلمان وأخذوني إلى الهاشمي، فلما رآني عرفني فقال: ويحك، ما هذا الذي أنت فيه؟ وما أصابك حتى صرتَ في هذه الحالة؟ فحكيتُ له ما جرى من أمري وبكيتُ، وعلا نحيب الجارية من خلف الستارة، وبكى الهاشمي هو وإخوته بكاءً شديدًا رأفةً بي، ثم قال: والله ما دنوتُ من هذه الجارية ولا وطئتها، ولا سمعت لها غناءً إلا اليوم، وأنا رجلٌ قد وسَّع الله عليَّ، وإنما وردت بغداد لسماع الغناء وطلب أرزاقي من أمير المؤمنين، وقد بلغتُ الأمرَيْن، ولما أردتُ الرجوع إلى وطني قلتُ في نفسي: أسمع شيئًا من غناء بغداد. فاشتريتُ هذه الجارية ولم أعلم أنكما على هذه الحالة، فأنا أُشهِد اللهَ على أن هذه الجارية إذا وصلَتْ إلى البصرة أعتِقُها وأزوِّجُكَ إياها، وأُجرِي لكما ما يكفيكما وزيادة، ولكن على شرط أني إذا أردتُ السماعَ يُضرَب لها ستارة وتغني من خلف الستارة، وأنت من جملة إخواني وندمائي. ففرحت بذلك، ثم إن الهاشمي أدخَلَ رأسه في الستارة وقال لها: أيرضِيكِ ذلك؟ فأخذت تدعو له وتشكره، ثم استدعى غلامًا له وقال له: خذ بيد هذا الشاب وانزع ثيابه وأَلْبِسه ثيابًا فاخرةً، وبخِّره وقدِّمه إلينا. فأخذني الغلام وفعل بي ما أمره سيده، وقدَّمني إليه، فوضع بين يدَي الشراب مثل ما وضعه بين أيديهما، ثم اندفعَتِ الجارية تغنِّي بأحسن النغمات وتنشد هذه الأبيات:
قال: فطرب القوم من ذلك طربًا شديدًا، وزاد فرح الفتى بذلك، ثم أخذ العود من الجارية وضرب به على أحسن النغمات، وأنشد هذه الأبيات:
ففرح القوم بي وزاد فرحهم، ولم يزالوا في فرحٍ سرورٍ، وأنا أغني ساعةً والجارية ساعة إلى أن جئنا إلى بعض السواحل، فرست السفينة هناك وصعد كلُّ مَن فيها وصعدت أنا أيضًا، وكنت سكران، فقعدت أبول فغلبني النوم فنمت، ورجعت الركاب إلى السفينة وانحدرت بهم، ولم يعلموا بي؛ لأنهم كانوا سكارى وكنتُ دفعتُ النفقة إلى الجارية، ولم يَبْقَ معي شيءٌ، ووصلوا إلى البصرة ولم أنتبه إلا من حر الشمس، فقمتُ في ذلك والتفَتُّ فما رأيت أحدًا، ونسيت أن أسأل الهاشمي عن اسمه، وأين داره بالبصرة، وبأي شيءٍ يُعرَف، وبقيتُ حيرانَ وكأنَّ ما كنتُ فيه من الفرح بلقاء الجارية منام، ولم أزَلْ متحيِّرًا حتى اجتازَ بي مركبٌ عظيم، ونزلت فيه ودخلتُ البصرة، وما كنتُ أعرف بها أحدًا ولا أعرف بيت الهاشمي، فجئتُ إلى بقَّال وأخذت منه دواةً وورقة. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.