فلما كانت الليلة ٨٩٩
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن البغدادي صاحب الجارية لما دخل البصرة وصار حيرانَ وهو لا يعرف أحدًا ولا يعرف دار الهاشمي، قال: فجئتُ إلى بقَّال وأخذتُ منه دواةً وورقةً، وقعدت أكتب، فاستحسَنَ خطي ورأى ثوبي دنِسًا، فسألني عن أمري، فأخبرته أني غريبٌ فقير. فقال: أتُقِيم عندي ولك في كل يومٍ نصفُ درهم، وأكلك وكسوتك، وتضبط لي حساب دكاني؟ فقلت له: نعم. وأقمتُ عنده وضبطتُ أمره، ودبَّرتُ له دَخْله وخَرْجه، فلما كان بعد شهر رأى الرجل دَخْله زائدًا وخَرْجه ناقصًا، فشكرني على ذلك، ثم إنه جعل لي في كلِّ يوم درهمًا إلى أن حالَ الحَوْل، فدعاني أن أتزوَّج بابنته ويشاركني في الدكان، فأجبته إلى ذلك ودخلتُ بزوجتي ولزمتُ الدكان، إلا أني منكسر الخاطر والقلب ظاهر الحزن، وكان البقال يشرب ويدعوني إلى ذلك، فأمتنع حزنًا، فاستمررتُ على تلك الحالة مدة سنتين، فبينما أنا في الدكان وإذا بجماعةٍ معهم طعامٌ وشرابٌ، فسألت البقال عن القضية فقال: هذا يوم المتنعِّمين، يخرج فيه أهل الطرب واللعب والفتيان من ذوي النعمة إلى شاطئ البحر، يأكلون ويشربون بين الأشجار على نهر الأيلة. فدعَتْني نفسي إلى الفرجة على هذا الأمر، وقلت في نفسي: لعلي إذا شاهدتُ هؤلاء الناس أجتمِعُ بمَن أحب. فقلت للبقال: إني أريد ذلك. فقال: شأنك والخروج معهم. ثم جهَّزَ لي طعامًا وشرابًا وسرتُ حتى وصلتُ إلى نهر الأيلة، فإذا الناس منصرفون، فأردتُ الانصراف معهم، وإذا بريس السفينة التي كان فيها الهاشمي والجارية بعينه وهو سائر في نهر الأيلة، فصحتُ عليهم فعرفني هو ومَن معه، وأخذوني عندهم وقالوا لي: هل أنت حيٌّ؟ وعانقوني وسألوني عن قصتي فأخبرتهم بها، فقالوا لي: إنَّا ظننا أنه قوي عليك السُّكْر، وغرقتَ في الماء. فسألتهم عن حال الجارية فقالوا: إنها لمَّا علمتْ بفقدك، مزَّقَتْ ثيابها وأحرقت العود وأقبلت على اللطم والنحيب، فلما رجعنا مع الهاشمي إلى البصرة قلنا لها: اتركي هذا البكاء والحزن. فقالت: أنا ألبس السواد وأجعل لي قبرًا في جانب هذه الدار، فأقيم عند ذلك القبر وأتوب عن الغناء. فمكَّنَاها من ذلك وهي في تلك الحالة إلى الآن.
ثم أخذوني معهم، فلما وصلتُ إلى الدار رأيتُها على تلك الحالة، فلما رأتني شهقتْ شهقةً عظيمةً حتى ظننتُ أنها ماتت، فاعتنقتُها عناقًا طويلًا، ثم قال لي الهاشمي: خذها. فقلت: نعم، ولكن أعتقها كما وعدتَني وزوِّجني بها. ففعل ذلك ودفع إلينا أمتعةً نفيسةً وثيابًا كثيرةً وفرشًا وخمسمائة دينارٍ، وقال: هذا مقدار ما أردتُ إجراءه لكما في كل شهرٍ، ولكن بشرط المنادَمة وسماع الجارية. ثم أخلى لنا دارًا وأمر بأن يُنقَل إليها جميع ما نحتاج إليه، فلما توجَّهْتُ إلى تلك الدار وجدتُها قد غُمِرت بالفرش والقماش، وحُمِلت إليها الجارية. ثم إنني جئتُ إلى البقال وأخبرتُه بجميع ما حصل لي وسألته أن يجعلني في حلٍّ من طلاق ابنته من غير ذنبٍ، ودفعتُ إليها مهرها وما يلزمني، وأقمتُ مع الهاشمي على ذلك سنتين، وصرتُ صاحبَ نعمةٍ عظيمة، وعادت لي حالتي التي كنتُ فيها أنا والجارية في بغداد، وقد فرَّجَ الله الكريم عنَّا، وأسبَغَ جزيلَ النِّعَم علينا، وجعل مآلَ صبرنا إلى الظفر بالمراد؛ فله الحمد في المبدأ والمعاد، والله أعلم.
حكاية الملك جليعاد والشماس
ومما يُحكَى أيضًا أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، ملكٌ من بلاد الهند، وكان ملكًا عظيمًا طويل القامة، حسَنَ الصورة، حسَنَ الخُلُق، كريم الطبائع، مُحسِنًا للفقراء، مُحِبًّا للرعية ولجميع أهل دولته، وكان اسمه جليعاد، وكان تحت يده في مملكته اثنان وسبعون ملِكًا، ولبلاده ثلاثمائة وخمسون قاضيًا، وكان له سبعون وزيرًا، وقد جعل على كلِّ عشرة من عسكره رئيسًا، وكان أكبرَ وزرائه شخصٌ يقال له شماس، وكان عمره اثنتين وعشرين سنة، وكان حسَنَ الخُلُق والطباع، لطيفًا في كلامه، لبيبًا في جوابه، حاذقًا في جميع أموره، حكيمًا مدبِّرًا رئيسًا مع صِغَر سنه، عارفًا بكل حكمة وأدب، وكان الملك يحبه محبةً عظيمةً، ويميل إليه لمعرفته بالفصاحة والبلاغة وأحوال السياسة، ولما أعطاه الله من الرحمة وخفض الجناح للرعية.
وكان ذلك الملك عادلًا في مملكته، حافظًا لرعيته، مواصلًا كبيرهم وصغيرهم بالإحسان وما يليق بهم من الرعاية والعطايا والأمان والطمأنينة، ومخفِّفًا للخراج عن كامل الرعية، وكان مُحِبًّا لهم كبيرًا وصغيرًا، ومعامِلًا لهم بالإحسان إليهم والشفقة عليهم، وأتى في حُسْن سيرته بينهم بما لم يأتِ به أحدٌ قبله، ومع هذا كله لم يرزقه الله تعالى بولدٍ، فشقَّ ذلك عليه وعلى أهل مملكته، فاتفق أن الملك كان مضطجعًا في ليلةٍ من الليالي وهو مشغول الفكر في عاقبة أمر مملكته، ثم غلب عليه النوم، فرأى في منامه كأنه يصبُّ ماءً في أصل شجرة. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.