فلما كانت الليلة ٩٠١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السِّنَّوْر قال للفأر: ائذن لي أن أبيت عندك هذه الليلة، ثم أروح إلى حال سبيلي. فلما سمع الفأر كلام السِّنَّوْر قال له: كيف تدخل وكري وأنت لي عدوٌّ بالطبع، ومعاشك من لحمي؟ وأخاف أن تغدر بي لأن ذلك من شيمتك؛ لأنه لا عهد لك، وقد قيل: لا ينبغي الأمان للرجل الزاني على المرأة الحسناء، ولا للفقير العائل على المال، ولا للنار على الحطب، وليس بواجب عليَّ أن استأمنك على نفسي، وقد قيل: عداوة الطبع كلما ضَعُف صاحبها كانت أقوى. فأجاب السِّنَّوْر قائلًا بأخمد صوت وأسوأ حال: إن الذي قلتَه من المواعظ حقٌّ ولستُ أُنكِر عليك، ولكن أسألك الصفحَ عمَّا مضى من العداوة الطبيعية التي بيني وبينك؛ لأنه قد قيل: مَن صفح عن مخلوقٍ مثله، صفح خالقه عنه. وقد كنتُ قبل ذلك عدوًّا لك، وها أنا اليومَ طالِبٌ صداقتك، وقد قيل: إذا أردتَ أن يكون عدوُّكَ لكَ صديقًا، فافعل معه خيرًا. وأنا يا أخي أعطيك عهد الله وميثاقه أني لا أضرُّكَ أبدًا، ومع هذا ليس لي قدرةٌ على ذلك، فثِقْ بالله وافعل خيرًا واقبل عهدي وميثاقي. فقال الفأر: كيف أقبل عهدَ مَن تأسَّسَتِ العداوة بيني وبينه، وعادتُه أن يغدر بي؟ ولو كانت العداوة بيننا على شيءٍ من الأشياء غير الدم، لَهان عليَّ ذلك، ولكنها عداوة طبيعية بين الأرواح، وقد قيل: مَن استأمن عدوَّه على نفسه، كان كمَن أدخَلَ يده في فم الأفعى. فقال السِّنَّوْر وهو ممتلئ غيظًا: قد ضاق صدري وضعفَتْ نفسي، وها أنا في النزع، وعن قليلٍ أموت على بابك، ويبقى إثمي عليك؛ لأنك قادرٌ على نجاتي ممَّا أنا فيه، وهذا آخِر كلامي معك. فحصل للفأر خوفٌ من الله تعالى، ونزلت في قلبه الرحمة، وقال في نفسه: مَن أرادَ المعونةَ من الله تعالى على عدوِّه، فَلْيصنع معه رحمةً وخيرًا، وأنا متوكِّل على الله في هذا الأمر، وأُنقِذُ هذا السِّنَّوْرَ من الهلاك لأكسب أجره.
فعند ذلك خرج الفأر إلى السِّنَّوْر وأدخَلَه في وكْرِه سَحْبًا، فأقام عنده إلى أن اشتَدَّ واستراح وتعافى قليلًا، فصار يتأسَّفُ على ضَعْفه وذهاب قوته وقلة أصدقائه، فصار الفأر يترفَّقُ به ويأخذ بخاطره، ويتقرَّب منه ويسعى حوله، وأما السِّنَّوْر فإنه زحف إلى الوكر حتى ملك المخرج خوفًا أن يخرج منه الفأر، فلما أراد الخروج قرب من السِّنَّوْر على عادته، فلما صار قريبًا منه قبض عليه وأخذه بين أظافره، وصار يعضُّه وينثره ويأخذه في فمه، ويرفعه عن الأرض ويرميه ويجري وراءه، وينهشه ويعذِّبه، فعند ذلك استغاثَ الفأر وطلب الخلاص من الله، وجعل يعاتب السِّنَّوْر ويقول: أين العهد الذي عاهدتَني به؟ وأين أقسامك التي أقسمتَ بها؟ أهذا جزائي منك وقد أدخلتُكَ وكري واستأمنتُكَ على نفسي؟ ولكنْ صدَقَ مَن قال: مَن أخذ عهدًا من عدوه، فلا يبتغِ لنفسه نجاةً. ومَن قال: مَن أسلَمَ نفسَه لعدوِّه، كان مستوجبًا لنفسه الهلاك. ولكن توكَّلْتُ على خالقي، فهو الذي يخلِّصني منك.
فبينما هو على تلك الحالة مع السِّنَّوْر وهو يريد أن يهجم عليه ويفترسه، وإذا برجلٍ صيادٍ معه كلاب جارحة معودة بالصيد، فمرَّ منهم كلب على باب الوكر، فسمع فيه معركةً كبيرةً، فظنَّ أن فيه ثعلبًا يفترس شيئًا، فاندفع الكلب منحدِرًا ليصطاده، فصادف السِّنَّوْر فجذبه إليه، فلما وقع السِّنَّوْر بين يدَيِ الكلب، التهى بنفسه وأطلق الفأر حيًّا ليس فيه جرح، وأمَّا هو فإنه خرج به الكلب الجارح بعد أن قطع عصبه ورماه ميتًا، وصدق في حقهما قول مَن قال: مَن رَحِمَ رُحِم آجِلًا، ومَن ظَلَم ظُلِم عاجلًا.
هذا ما جرى لهما أيها الملك، فلذلك لا ينبغي لأحدٍ أن ينقض عهدَ مَن استأمنه، ومَن غدر وخان يحصل له مثل ما حصل للسِّنَّوْر؛ لأنه كما يدين الفتى يُدان، ومَن يرجع إلى الخير يَنَلِ الثوابَ، ولكن لا تحزن أيها الملك ولا يشق عليك ذلك؛ لأن ولدك بعد ظلمه وعسفه، ربما يعود إلى حُسْن سيرتك، وإن هذا العالِمَ الذي هو وزيرك شماس أحَبَّ ألَّا يكتم عليك شيئًا فيما رمزه إليك، وذلك رشْدٌ منه؛ لأنه قد قيل: أكثر الناس خوفًا أوسعهم علمًا وأغبطهم خيرًا.
فأذعَنَ الملك عند ذلك، وأمر لهم بإكرامٍ جزيلٍ، ثم صرفهم وقام ودخل مكانه وصار يتفكَّر في عاقبة أمره، فلما كانَ الليل أفضى إلى بعض نسائه، وكانت أكرمهن عنده وأحَبَّهن إليه، فراقَدَها، فلما مضى لها نحو أربعة أشْهُر تحرَّك الحمل في بطنها، ففرحت بذلك فرحًا شديدًا، وأعلمَتِ الملك بذلك فقال: صدقَتْ رؤياي والله المستعان. ثم إنه أنزَلَها أحسنَ المنازل، وأكرَمَها غايةَ الإكرام، وأعطاها إنعامًا جزيلًا وخوَّلها بشيءٍ كثير، وبعد ذلك دعَا بأحد الغلمان وأرسَلَه ليحضر شماسًا، فلما حضر حدَّثَه الملك بما صار من حمل زوجته وهو فرحان قائلًا: قد صدقَتْ رؤياي واتصل رجائي، فلعل ذلك الحمل يكون ولَدًا ذكرًا، ويكون وارثًا لمُلْكي، فما تقول يا شماس في ذلك؟ فسكَتَ شماس ولم ينطق بجوابٍ، فقال له الملك: ما لي أراكَ لا تفرح لفرحي، ولا تردُّ لي جوابًا؟ يا تُرَى هل كارِهٌ لهذا الأمر يا شماس؟ فسجَدَ عند ذلك شماس بين يدَيِ الملك وقال: أيها الملك أطالَ الله عمرك، ما الذي ينفع المستظل بشجرةٍ إذا كانَتِ النارُ تخرج منها؟ وما لذة شارِب الخمر الصافي إذا حصل له بها الشَّرَق؟ وما فائدة الناهِل من الماء العَذْب البارد إذا غرق فيه؟ وإنما أنا عبدٌ للهِ ولك أيها الملك، ولكن قد قيل ثلاثة أشياء لا ينبغي للعاقل أن يتكلَّمَ في شأنها إلا إذا تمَّتْ: المسافِر حتى يرجع من سفره، والذي في الحرب حتى يقهر عدوَّه، والمرأة الحامل حتى تضع حملها. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.