فلما كانت الليلة ٩٠٢
حكاية الناسك المدفوق على رأسه السمن
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير شماسًا لما قال للملك: ثلاثة أشياءٍ لا ينبغي للعاقل أن يتكلَّم في شأنها إلا إذا تمَّتْ. قال له بعد ذلك: فاعلم أيها الملك أن المتكلم في شأن شيءٍ لم يتمَّ مثل الناسك المدفوق على رأسه السمن. فقال له الملك: وكيف حكاية الناسك؟ وما جرى له؟ فقال له: أيها الملك إنه كان إنسان ناسك عند شريف من أشراف بعض المدن، وكان للناسك جِرايةٌ في كلِّ يوم من رزق ذلك الشريف، وهي ثلاثة أرغفة مع قليلٍ من السمن والعسل، وكان السمن في ذلك البلد غاليًا، وكان الناسك يجمع الذي يجيء إليه في جرَّةٍ عنده حتى ملأها وعلَّقها فوق رأسه خوفًا واحتراسًا، فبينما هو ذات ليلةٍ من الليالي جالس على فراشه وعصاه في يده؛ إذ عرض له فِكْر في أمر السمن وغلائه، فقال في نفسه: ينبغي أن أبيع هذا السمن الذي عندي جميعه، وأشتري بثمنه نعجةً وأشارك عليها أحدًا من الفلاحين، فإنها في أول عام تلد ذكرًا وأنثى، وثاني عام تلد أنثى وذكرًا، ولا تزال هذه الغنم تتوالد ذكورًا وإناثًا حتى تصير شيئًا كثيرًا، وأقسم حصتي بعد ذلك وأبيع فيها ما شئتُ، وأشتري الأرض الفلانية وأُنشِئ فيها غيطًا، وأبني فيها قصرًا عظيمًا، وأقتني ثيابًا وملبوسًا، وأشتري عبيدًا وجواري، وأتزوَّج بنتَ التاجر الفلاني، وأعمل عرسًا ما صار مثله قطُّ، وأذبح الذبائح وأعمل الأطعمة الفاخرة والحلويات والملبسات وغيرها، وأجمع فيها أهل الملاعب والفنون وآلات السماع، وأجهز الأزهار والمشمومات وأصناف الرياحين، وأدعو الأغنياء والفقراء والعلماء والرؤساء وأرباب الدولة، وكلُّ مَن طلب شيئًا أحضرتُه إليه، وأجهِّزُ أنواعَ المآكل والمشارب، وأطلق مُنادِيًا ينادي: مَن يطلب شيئًا يناله. وبعد ذلك أدخل على عروستي بعد جلائها، وأتمتَّع بحُسْنها وجمالها، وآكل وأشرب وأطرب، وأقول لنفسي: قد بلغتِ مُنَاكِ. وأستريح من النسك والعبادة، وبعد ذلك تحمل زوجتي وتلد غلامًا ذكرًا، أفرح به وأعمل له الولائم وأربِّيه في الدلال، وأعلِّمه الحكمةَ والأدبَ والحسابَ، وأَشْهَرُ اسمَه بين الناس وأفتخر به عند أرباب المجالس، وآمره بالمعروف فلا يخالفني، وأنهاه عن الفاحشة والمنكر، وأوصيه بالتقوى وفعل الخير، وأعطيه العطايا الحسنة السنية، فإن رأيته لزم الطاعة زدتُه عطايا صالحة، وإن رأيته مالَ إلى المعصية أنزل عليه بهذه العصا. ورفَعَها ليضرب بها ولده، فأصابَتْ جرَّةَ السمنِ التي فوق رأسه فكسرَتْها، فعند ذلك نزلت بشَقَفاتها عليه، وساح السمن على رأسه وعلى ثيابه وعلى لحيته، وصار عبرةً.
فلأجل ذلك أيها الملك لا ينبغي للإنسان أن يتكلَّم على شيءٍ قبل أن يصير. فقال له الملك: لقد صدقتَ فيما قلتَ، ونِعْمَ الوزير أنتَ، لكَوْنِكَ بالصدق نطقتَ وبالخير أَشَرْتَ، ولقد صارت رتبتك عندي على ما تحب ولم تزل مقبولًا. فسجد شماس لله وللملك، ودَعَا له بدوام النِّعَم وقال له: أدام الله أيامك وأعلى شأنك، واعلم أنني لستُ أكتم عنك شيئًا لا في السر ولا في العلانية، ورضاك رضاي وغضبك غضبي، وليس لي فرح إلا بفرحك، ولا يمكنني أن أبيتَ وأنت ساخطٌ عليَّ؛ لأن الله تعالى رزقني بكلِّ خيرٍ بإكرامك إياي، فأسأل الله تعالى أن يحرسك بملائكته، ويحسن ثوابك عند لقائه. فابتهج الملك عند ذلك، ثم قام شماس وانصرف من عند الملك، ثم بعد مدة وضعَتْ زوجة الملك غلامًا ذكرًا، فنهض المبشِّرون إلى الملك وبشَّروه بغلامه، ففرح بذلك فرحًا شديدًا، وشكر الله شكرًا جزيلًا وقال: الحمد لله الذي رزقني ولدًا بعد اليأس، وهو الشفوق الرءوف على عباده. ثم إن الملك كتب إلى سائر أهل مملكته ليُعلِمهم بالخبر ويدعوهم إلى منزله، فحضر له الأمراء والرؤساء والعلماء وأرباب الدولة الذين تحت أمره.
هذا ما كان من أمر الملك، وأما ما كان من أمر ولده؛ فإنه قد دقَّتِ البشائر والأفراح في سائر المملكة، وأقبَلَ أهلُها إلى الحضور من سائر الأقطار، وأقبَلَ أهل العلوم والفلسفة والأدباء والحكماء ودخلوا جميعهم إلى الملك، ووصل كلٌّ منهم إلى حدِّ مقامه، ثم أشار إلى الوزراء السبعة الكبار الذين رئيسهم شماس أن يتكلَّمَ كلُّ واحد منهم على قدر ما عنده من الحكمة في شأنِ ما هو بصدده، فابتدأ رئيسهم الوزير شماس واستأذن في الكلام فأذن له، فقال: الحمد لله الذي أنشأنا من العدم إلى الوجود، المُنعِم على عباده الملوك، أهل العدل والإنصاف، بما أولاهم من الملك والعمل الصالح، وبما أجراه على أيديهم لرعيتهم من الرزق، وخصوصًا مَلِكنا الذي أحيا به مَوَاتَ بلادنا، بما أسداه الله علينا من النِّعَم، ورزقنا من سلامته برخاء العيش والطمأنينة والعدل، فأي ملك يصنع بأهل مملكته ما صنع هذا الملك بنا، من القيام بمصالحنا، وأداء حقوقنا، وإنصاف بعضنا من بعض، وقلة الغفلة عنَّا، وردِّ مظالمنا؟ ومن فضل الله على الناس أن يكون ملكهم متعهِّدًا لأمورهم، وحافظًا من عدوِّهم؛ لأن العدوَّ غايةُ قصده أن يقهر عدوَّه، وأن يملكه في يده، وكثير من الناس يقدِّمون أولادهم إلى الملوك خَدَمًا، فيصيرون عندهم بمنزلة العبيد لأجل أن يمنعوا عنهم الأعداء، وأما نحن فلم يطأ بلادنا أعداءٌ في زمن مَلِكنا، لهذه النعمة الكبرى والسعادة العظمى التي لم يقدر الواصِفون على وصفها، وإنما هي فوق ذلك؛ وأنت أيها الملك حقيقٌ بأنك أهلٌ لهذه النعمة العظيمة، ونحن تحت كنفك وفي ظلِّ جناحك، أحسَنَ اللهُ ثوابَك وأدام بقاءَك؛ لأننا كنَّا قبل ذلك نجدُّ في الطلب من الله تعالى أن يمُنَّ علينا بالإجابة، ويُبقِيك لنا ويعطيك ولدًا صالحًا تقرُّ به عيناك، والله سبحانه وتعالى قد تقبَّلَ منَّا واستجاب دعاءنا. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.