فلما كانت الليلة ٩٠٣
حكاية السمك في غدير الماء
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير شماسًا قال للملك: إن الله تعالى قد تقبَّلَ منَّا واستجابَ دعاءنا، وآتانا الفرج القريب مثل ما آتى بعض السمك في غدير الماء. فقال الملك: وما حكاية السمك؟ وكيف ذلك؟ فقال شماس: اعلم أيها الملك أنه كان في بعض الأماكن غدير ماءٍ، وكان فيه بعض سمكات، فعرض لذلك الغدير أنه قلَّ ماؤه وصار ينضمُّ بعضه إلى بعضٍ، ولم يَبْقَ من الماء ما يسعفها، فكادت أن تهلك وقالت: ما عسى أن يكون من أمرنا؟ وكيف نحتال؟ ومَن نستشيره في نجاتنا؟ فقامت سمكة منهن وكانت أكبرهن عقلًا وسنًّا، وقالت: ما لنا حيلة في خلاصنا إلا الطلب من الله، ولكن نلتمس الرأي من السرطان، فإنه أكبرنا، فهلمُّوا بنا إليه لننظر ما يكون من رأيه؛ لأنه أكثر منَّا معرفةً بحقائق الكلام. فاستحسنوا رأيها وجاءوا بأجمعهم إلى السرطان، فوجدوه رابضًا في موضعه وليس عنده علمٌ ولا خبرٌ ممَّا هم فيه، فسلَّموا عليه وقالوا له: يا سيدنا، أَمَا يعنيك أمرنا وأنت حاكمنا ورئيسنا؟ فأجابهم السرطان قائلًا: وعليكم السلام، ما الذي بكم؟ وما تريدون؟ فقصُّوا عليه قصتهم وما دهاهم من أمر نقص الماء، وأنه متى نشف حصل لهم الهلاك، ثم قالوا له: وقد جئناكَ منتظرين رأيكَ وما يكون فيه النجاة؛ لأنك كبيرنا وأعرف منَّا. فعند ذلك أطرق رأسه مليًّا، ثم قال: لا شكَّ أن عندكم نقص عقلٍ ليأسكم من رحمة الله تعالى وكفالته بأرزاق خلائقه جميعًا، أَلَمْ تعلموا أن الله سبحانه وتعالى يرزق عباده بغير حساب، وقدَّرَ أرزاقهم قبل أن يخلق شيئًا من الأشياء، وجعل لكلِّ شخص عمرًا محدودًا ورزقًا مقسومًا بقدرته الإلهية، فكيف نحمل هَمَّ شيءٍ هو في الغيب مسطور؟ والرأي عندي أنه لم يكن أحسن من الطلب من الله تعالى، فينبغي أنَّ كلَّ واحد منَّا يصلح سريرته مع ربِّه في سرِّه وعلانيته، ويدعو الله أن يخلِّصنا وينقذنا من الشدائد؛ لأن الله تعالى لا يخيب رجاء مَن توكَّلَ عليه، ولا يردُّ طلبَ مَن توسَّلَ إليه، فإذا أصلحنا أحوالنا استقامت أمورنا، وحصل لنا كلَّ خير ونعمة، وإذا جاء الشتاء وغمر أرضنا بدعاء صالحنا، فلا يهدم الخير الذي بناه، فالرأي أن نصبر وننتظر ما يفعله الله بنا، فإنْ كان يحصل لنا موت على العادة استرحنا، وإنْ كان يحصل لنا ما يوجب الهروبَ هربنا ورحلنا من أرضنا إلى حيث يريد الله. فأجاب السمك جميعه من فم واحد: صدقتَ يا سيدنا، جزاك الله عنَّا خيرًا. وتوجَّهَ كلُّ واحدٍ منهم إلى موضعه، فما مضى إلا أيامٌ قلائل وأتاهم الله بمطرٍ شديدٍ حتى ملأ محلَّ الغدير زيادةً عمَّا كان أولًا. وهكذا نحن أيها الملك كنَّا يائسين من أن يكون لك ولد، وحيث مَنَّ الله علينا وعليك بهذا الولد المبارك، فنسأل الله تعالى أن يجعله ولدًا مباركًا، وأن تقرَّ به عينك ويجعله خليفةً صالحًا، ويرزقنا منه مثلَ ما رزقنا منك، فإن الله تعالى لا يخيِّب مَن قصده، ولا ينبغي لأحدٍ أن يقطع رجاءَه من رحمة الله.
ثم قام الوزير الثاني وسلَّمَ على الملك، فأجابه الملك قائلًا: وعليكم السلام. فقال ذلك الوزير: إن الملك لا يُسمَّى ملكًا إلا إذا أعطى وعدل وحكم وأكرَمَ وأحسَنَ سيرته مع رعيته بإقامة الشرائع والسنن المألوفة بين الناس، وأنصف بعضهم من بعض، وحقَنَ دماءَهم وكفَّ الأذى عنهم، ويكون موصوفًا بعدم الغفلة عن فقرائهم، وإسعاف أعلاهم وأدناهم، وإعطائهم الحقَّ الواجب لهم حتى يصيروا جميعًا داعين له ممتثلين لأمره؛ لأنه لا شكَّ أن الملك الذي بهذه الصفة محبوبٌ عند الرعية، مُكتسِبٌ من الدنيا عُلاها، ومن الآخرة شرفها ورضا خالقها، ونحن معاشر العبيد معترِفون لك أيها الملك بأن جميع ما وصفناه عندك كما قيل: خير الأمور أن يكون ملك الرعية عادلًا، وحكيمها ماهرًا، وعالمها خبيرًا عاملًا بعلمه، ونحن الآن متنعِّمون بهذه السعادة، وكنَّا قبل ذلك قد وقعنا في اليأس من حصول ولد لك يرث ملكك، ولكن الله جلَّ اسمه لم يخيِّب رجاءَك وقبِلَ دعاءك لحُسْن ظنك به، وتسليم أمرك إليه، فنِعْم الرجاء رجاؤك، وقد صار فيك ما صار للغراب والحية. فقال الملك: وكيف ذلك؟ وما حكاية الغراب والحية؟
حكاية الغراب والحية
فقال الوزير: اعلم أيها الملك أنه كان غراب ساكنًا في شجرةٍ هو وزوجته في أرغدِ عيشٍ إلى أن بلغَا زمانَ تفريخهما وكان زمنَ القيظ، فخرجَتْ حيَّةٌ من وكْرِها وقصدَتْ تلك الشجرة فتعلَّقت بفروعها إلى أن صعدت إلى عش الغراب وربضت فيه ومكثت مدة أيام الصيف، وصار الغراب مطرودًا لا يجد له فرصةً ولا موضعًا يرقد فيه. فلما انقضت أيام الحر ذهبَتِ الحيَّةُ إلى مَوْضعها، فقال الغراب لزوجته: نشكر الله تعالى الذي نجَّانا وخلَّصنا من هذه الآفة، ولو كنا حُرِمنا من الزاد في هذه السنة؛ لأن الله تعالى لا يقطع رجاءَنا، فنشكره على ما مَنَّ علينا من السلامة وصحة أبداننا، وليس لنا اتِّكالٌ إلا عليه، وإذا أراد الله وعِشْنا إلى العام القابل عوَّضَ اللهُ علينا نتاجَنا. فلما كان وقتُ تفريخِهما خرجَتِ الحيةُ من موضعها وقصدت الشجرة، فبينما هي متعلِّقة ببعض أغصانها وهي قاصدة عُشَّ الغراب على العادة، وإذا بحَدَأة قد انقضَّتْ عليها وضربَتْها في رأسها فخدشَتْها، فعند ذلك سقطت الحية على الأرض مغشيًّا عليها وطلع عليها النمل فأكلها، وصار الغراب مع زوجته في سلامة وطمأنينة، وفرَّخَا أولادًا كثيرة وشكرَا الله على سلامتهما وعلى حصول الأولاد. ونحن أيها الملك يجب علينا شكر الله على ما أنعَمَ به عليك وعلينا بهذا المولود المبارك السعيد بعد اليأس وقطع الرجاء، أحسَنَ الله ثوابَك وعاقبةَ أمرك. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.