فلما كانت الليلة ٩٠٥
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير الرابع لما قام وقال: إن الملك إذا كان فهيمًا عالمًا بأبواب الحكمة والأحكام والسياسة، مع صلاح النية والعدل في الرعية، وإكرام مَن يجب إكرامه وتوقير مَن يجب توقيره، والعفو عند القدرة فيما لا بد منه، ورعاية الرؤساء والمرءوسين، والتخفيف عنهم والإنعام عليهم، وستر عوراتهم والوفاء بعهدهم؛ كان حقيقًا بالسعادة الدنيوية والأخروية، فإن ذلك مما يُعِيذه منهم ويُعِينه على ثبات مُلْكه ونُصْرته على أعدائه وبلوغ مأموله، مع زيادة نعمة الله عليه وتوفيقه لشكره والفوز بعنايته؛ وإن الملك إذا كان بخلاف ذلك، فإنه لم يَزَلْ في مصائب وبلايا هو وأهل مملكته، لكَوْنِ جوره على الغريب والقريب، ويصير فيه ما صار لابن الملك السائح. فقال الملك: وكيف كان ذلك؟
حكاية ابن الملك السائح
فقال الوزير: اعلم أيها الملك أنه كان في بلاد الغرب ملِكٌ جائِر في حكمه، ظالمٌ غاشمٌ عاسفٌ مضيِّعٌ لرعاية رعيته ومَن يدخل في مملكته، فكان لا يدخل في مملكته أحدٌ إلا ويأخذ عِمالةً منه أربعة أخماس ماله ويبقون له الخمس لا غير، فقدَّرَ الله أنه كان له ولد سعيد موفَّق، فلما رأى أحوالَ الدنيا غير مستقيمة، تركها وخرج سائحًا عابدًا لله تعالى من صغره، ورفض الدنيا وما فيها، وخرج في طاعة الله تعالى يسرح في البراري والقفار ويدخل المدن، ففي بعض الأيام دخل تلك المدينة، فلما وقف على المحافظين أخذوه وفتَّشوه، فلم يروا معه شيئًا سوى ثوبَيْن؛ أحدهما جديد والآخَر عتيق، فنزعوا منه الجديد وتركوا له العتيق بعد الإهانة والتحقير، فصار هو يشكو ويقول: وَيْحكم أيها الظالمون، أنا رجل فقير وسائح، وما عسى أن ينفعكم من هذا الثوب؟ وإذا لم تعطوه لي ذهبتُ للملك وشكوتُكم إليه. فأجابوه قائلين: إننا فعلنا ذلك بأمر الملك، فما بَدَا لك أن تفعله فافعله. فصار السائح يمشي إلى أن وصَلَ بلادَ الملك وأراد الدخول، فمنعه الحجَّاب، فرجع وقال في نفسه: ما لي إلا أني أرصده حتى يخرج وأشكو إليه حالي وما أصابني. فبينما هو على تلك الحالة ينتظر خروجَ الملك، إذ سمع أحد الأجناد يخبر عنه، فأخذ يتقدَّمُ قليلًا قليلًا حتى وقف قبال الباب، فما شعر إلا والملك خارج، فعارَضَه السائح ودعا له بالنصر، وأخبَرَه بما وقع له من المحافظين وشكا إليه حاله، وأخبره أنه رجل من أهل الله، رفض الدنيا وخرج طالبًا رِضاء الله تعالى، فصار سائحًا في الأرض، وكلُّ مَن وفد عليه من الناس أحسَنَ إليه بما أمكَنَه، وصار يدخل كل مدينة وكل قرية وهو على هذه الحالة. ثم قال: فلما دخلتُ هذه المدينة ترجَّيْتُ أن يفعل بي أهلها مثل ما يُفعَل بغيري من السائحين، فعارَضني أتباعك ونزعوا أحد أثوابي وألهبوني ضربًا، فانظر في شأني وخذ بيدي وخلِّص لي ثوبي، وأنا لا أقيم بهذه المدينة ساعةً واحدةً. فأجابه الملك الظالم قائلًا: مَن أشارَ عليك بدخولك هذه المدينة وأنت غير عالِمٍ بما يفعل ملِكها؟ فقال: بعد أن آخذ ثوبي افعل بي مرادك. فلما سمع ذلك الملك الظالم من السائح هذا الكلام، حصل عنده تغيُّر مزاجٍ، فقال: أيها الجاهل، نزعنا عنك ثوبك لكي تذلَّ، وحيث وقع منك مثل هذا الصياح عندي، فأنا أنزع نفسك منك. ثم أمر بسجنه.
فلما دخل السجن جعل يندم على ما وقع منه من الجواب، وعنَّفَ نفسه حيث لم يترك ذلك ويفوز بروحه. فلما كان نصف الليل قامَ وصلى صلاةً مطولةً وقال: يا الله، إنك أنت الحَكَم العادل، تعلم بحالي وما انطوى عليه أمري مع هذا الملِك الجائر، وأنا عبدك المظلوم أسألك من فيض رحمتك أن تنقذني من يد هذا الملك الظالم وتحل به نقمتك؛ لأنك لا تغفل عن ظُلْمِ كل ظالمٍ، فإن كنتَ تعلم أنه ظلمني فاحللْ نقمتَكَ عليه في هذه الليلة، وأنزِلْ به عذابك؛ لأن حُكْمك عدل وأنت غيَّاث كل ملهوفٍ، يا مَن له القدرة والعظمة إلى آخِر الدهر. فلما سمع السجَّان دعاء هذا المسكين، صار جميع ما فيه من الأعضاء مرعوبًا، فبينما هو كذلك وإذا بنارٍ اتَّقَدَتْ في القصر الذي فيه الملك، فأحرقَتْ جميعَ ما فيه حتى باب السجن، ولم يخلص سوى السجَّان والسائح، فانطلق السائح وسار هو والسجَّان ولم يزالَا سائرين حتى وصَلَا إلى غير تلك المدينة، وأما مدينة الملك الظالم فإنها احترقَتْ عن آخِرها بسبب جور ملِكها. وأما نحن أيها الملك السعيد فما نمسي ونصبح إلا ونحن داعون لك، وشاكرون الله تعالى على فضله بوجودك، مطمئنين بعدلك وحُسْن سيرتك، وكان عندنا غمٌّ كثير لعدم وجود ولد لك يرث ملكك؛ خوفًا أن يصير علينا ملك غيرك من بعدك، والآن قد أنعَمَ الله تعالى بكرمه علينا وأزالَ عنَّا الغمَّ وأتانا بالسرور بوجود هذا الغلام المبارك، فنسأل الله تعالى أن يجعله خليفةً صالحًا، ويرزقه العزَّ والسعادة الباقية والخير الدائم. ثم قام الوزير الخامس وقال: تبارَكَ الله العظيم … وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.