فلما كانت الليلة ٩٠٩
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك جليعاد لما سمع كلام شماس أمَرَ جهابذة العلماء وأذكياء الفضلاء ومَهَرة الحكماء أن يحضروا إلى قصر الملك في غدٍ، فحضروا جميعًا، فلما اجتمعوا على باب الملك أذِنَ لهم بالدخول، ثم حضر شماس الوزير وقبَّلَ يدَيِ ابن الملك، فقام ابن الملك وسجد للشماس، فقال له الشماس: ليس يجب على شبل الأسد أن يسجد لأحدٍ من الوحوش، ولا ينبغي أن يقترنَ النورُ بالظلام. قال الغلام: إن شبل الأسد لما رأى وزير الملك سجَدَ له. فعند ذلك قال شماس: أخبرني ما الدائم المطلق وما كوناه؟ وما الدائم من كونَيْه؟ قال الغلام: أما الدائم المطلق فهو الله عزَّ وجلَّ؛ لأنه أول بلا ابتداء، وآخِر بلا انتهاء، وأما كوناه فالدنيا والآخرة، وأما الدائم من كونَيْه فهو نعيم الآخرة. قال شماس: صدقتَ فيما قلتَ وقبلته منك، غير أني أحب أن تخبرني من أين علمتَ أن أحد الكونين هو الدنيا وثانيهما هو الآخرة؟ قال الغلام: لأن الدنيا خُلِقت ولم يكن من شيءٍ كائنٍ، فآلَ أمرها إلى الكون الأول، غير أنها عَرَض سريع الزوال متوجِّب الجزاء على الأعمال، وذلك يستدعي إعادةَ الفاني، فالآخرة هي الكون الثاني. قال شماس: صدقتَ فيما قلتَ وقبلتُه منكَ، غير أني أحبُّ أن تخبرني من أين علمتَ أن نعيم الآخرة هو الدائم من الكونَيْن؟ قال الغلام: علمتُ ذلك من أنها دار الجزاء على الأعمال التي أعَدَّها الباقي بلا زوال. قال شماس: أخبرني أي أهل الدنيا أحمد عملًا؟ قال الغلام: مَن يُؤثِر آخِرتَه على دنياه. قال شماس: ومَن الذي يُؤثِر آخرتَه على دنياه؟ فقال الغلام: مَن كان يعلم أنه في دارٍ منقطعةٍ، وأنه ما خُلِق إلا للفناء، وأنه بعد الفناء يُحاسَب، وأنه لو كان في هذه الدنيا أحدٌ مخلَّدٌ أبدًا، لا يُؤثِر الدنيا على الآخرة. قال شماس: أخبرني هل تستقيم آخِرة بغير دنيا؟ قال الغلام: مَن لم يكن له دنيا فلا آخِرة له، ولكن رأيتُ الدنيا وأهلَها والمعادَ الذي هم صائرون إليه كمثل أهل هؤلاء الضياع الذين ابتنَى لهم أميرٌ بيتًا ضيِّقًا وأدخَلَهم فيه، وأمرهم بعملٍ يعملونه، وضرب لكلِّ واحدٍ منهم أجلًا ووكَّلَ به شخصًا، فمَن عمل منهم ما أُمِر به أخرَجَه الشخص الموكل به من ذلك الضِّيق، ومَن لم يعمل ما أُمِر به وقد انقضى الأجل المضروب له عُوقِب؛ فبينما هم كذلك إذ رشح لهم من شقوق البيت عسل، فلما أكلوا من العسل وذاقوا طعمه وحلاوته، توانَوْا في العمل الذي أُمِروا به ونبذوه وراء ظهورهم، وصبروا على ما هم فيه من الضِّيق والغَمِّ، مع ما علموا من تلك العقوبة التي هم صائرون إليها، وقنعوا بتلك الحلاوة اليسيرة، وصار الموكل بهم لا يدع أحدًا منهم إذا جاء أجله إلا ويُخرِجه من ذلك البيت، فعرفنا أن الدنيا دارٌ تتحيَّرُ فيها الأبصارُ، وتسرب لأهلها فيها الآجال، فمَن وجد الحلاوة القليلة التي تكون في الدنيا وأشغَلَ نفسه بها، كان من الهالكين؛ حيت آثَرَ أمرَ دنياه على آخِرته، ومَن يُؤثِر آخِرتَه على دنياه ولم يلتفت إلى تلك الحلاوة القليلة، كان من الفائزين.
قال شماس: قد سمعتُ ما ذكرتَ من أمر الدنيا والآخرة وقبلتُ ذلك منك، ولكني قد رأيتُهما مسلَّطَتَيْن على الإنسان، فلا بد له من إرضائهما معًا وهما مختلفتان، فإنْ أقبَلَ العبد على طلب المعيشة، فذلك إضرار بروحه في المعاد، وإنْ أقبَلَ على الآخرة، كان ذلك إضرارًا بجسده، وليس له سبيل إلى إرضاء المتخالِفَيْن معًا.
حكاية الملِكَيْن
قال الغلام: إنه مَن حصل المعيشة في الدنيا تقوِّيه على الآخرة، فإني رأيتُ أمرَ الدنيا والآخرة مثل ملِكَيْن: عادلٍ وجائرٍ، وكانت أرض الملك الجائر ذات أشجار وأثمار ونبات، وكان ذلك الملِك لا يَدَعُ أحدًا من التجار إلا أخذ ماله وتجارته، وهم صابرون على ذلك لما يصيبون من خصبِ تلك الأرض في المعيشة؛ وأما الملك العادل فإنه بعث رجلًا من أهل أرضه وأعطاه مالًا وافرًا، وأمره أن ينطلق إلى أرض الملك الجائر ليبتاع به جواهر منها، فانطلَقَ ذلك الرجل بالمال حتى دخل تلك الأرض، فقيل للملك: إنه جاء إلى أرضك رجلٌ تاجرٌ ومعه مالٌ كثيرٌ يريد أن يبتاع به جواهر منها. فأرسَلَ إليه وأحضَرَه وقال له: مَن أنت؟ ومن أين أتيتَ؟ ومَن جاء بك إلى أرضي؟ وما حاجتك؟ فقال له: إني من أرض كذا وكذا، وإن ملِكَ تلك الأرض أعطاني مالًا وأمرني أن أبتاع له به جواهر من هذه الأرض، فامتثلتُ أمره وجئتُ. فقال له الملك: ويحكَ! أَمَا علمتَ صنعي بأهل أرضي من أني آخذ مالهم في كل يوم؟ فكيف تأتيني بمالِكَ وها أنت مقيمٌ في أرضي منذ كذا وكذا؟ فقال له التاجر: إن المال ليس لي منه شيء، وإنما هو أمانة تحت يدي حتى أوصله إلى صاحبه. فقال له: إني لستُ بتاركِكَ تأخذ معيشتك من أرضي حتى تفدي نفسك بهذا المال جميعه. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.