فلما كانت الليلة ٩١٠
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك الجائر قال للتاجر الذي يريد أن يشتري الجواهر من أرضه: لا يمكن أن تأخذ معاشًا من أرضي حتى تفدي نفسك بهذا المال أو تهلك. فقال الرجل في نفسه: قد وقعتُ بين ملكَيْن، وقد علمتُ أن جورَ هذا الملك عامٌّ على كلِّ مَن أقام بأرضه، فإن لم أُرْضِه كان هلاكي وذهاب المال لا بد منهما ولم أُصِبْ حاجتي، وإنْ أعطيتُه جميعَ المال كان هلاكي عند الملك صاحب المال لا بد منه، وليس لي حيلةٌ سوى أني أعطيه من هذا المال جزءًا يسيرًا، وأُرضِيه به وأدفع عن نفسي وعن هذا المال الهلاك، وأُصِيب من خصب هذه الأرض قوتَ نفسي حتى أبتاع ما أريد من الجواهر، وأكون قد أرضيتُه بما أعطيتُه، وآخذ نصيبي من أرضه هذه وأتوجَّهُ إلى صاحب المال بحاجته، فإني أرجو من عدله وتجاوزه ما لا أخاف معه عقوبة فيما أخَذَه هذا الملِك من المال، خصوصًا إذا كان يسيرًا. ثم إن التاجر دعَا الملِك وقال له: أيها الملِك، أنا أفتدي نفسي وهذا المال بجزء صغير من منذ دخلتُ أرضك حتى أخرج منها. فقبل الملك منه ذلك وخلَّى سبيله سنةً، فاشترى الرجل بماله جميعه جواهرَ وانطلق إلى صاحبه. فالملك العادل مثال للآخرة، والجواهر التي بأرض الملك الجائر مثال للحسنات والعمل الصالح، والرجل صاحب المال مثال لمَن طلب الدنيا، والمال الذي معه مثال لحياة الإنسان، فلما رأيتُ ذلك علمتُ أنه ينبغي لمَن يطلب المعيشة في الدنيا ألَّا يخلي يومًا عن طلب الآخرة، فيكون قد أرضَى الدنيا بما ناله من خصب الأرض، وأرضَى الآخرة بما يصرف من حياته في طلبها.
قال شماس: فأخبرني هل الجسد والروح سواء في الثواب والعقاب، أم إنما يختصُّ بالعقاب صاحب الشهوات وفاعل الخطيئات؟ قال الغلام: قد يكون الميل إلى الشهوات والخطيئات موجِبًا للثواب بحبس النفس عنها والتوبة منها، والأمر بيدِ مَن يفعل ما يشاء، وبضدها تتميَّزُ الأشياء، على أن المعاش لا بد منه للجسد، ولا جسد إلا بالروح، وطهارة الروح بإخلاص النية في الدنيا والالتفات إلى ما ينفع في الآخرة، فهما فرَسَا رهان ورضيعَا لبان، ومشتركان في الأعمال، وباعتبار النية تفصيل الإجمال، وكذلك الجسد والروح مشتركان في الأعمال، وفي الثواب والعقاب.
حكاية الأعمى والمُقعَد
وذلك مثل الأعمى والمُقعَد اللذين أخذهما رجلٌ صاحب بستان، وأدخلهما بستانه وأمرهما ألَّا يفسدَا فيه ولا يصنعَا فيه أمرًا يضرُّ به، فلما طابَتْ أثمار البستان قال المُقعَد للأعمى: وَيْحك! إني أرى أثمارًا طيبة وقد اشتهيتها، ولستُ أقدر على القيام إليها لآكل منها، فقُمْ أنت لأنك صحيح الرِّجْلين وَأْتنا منها بما نأكل. فقال الأعمى: وَيْحك! قد ذكرتَها لي، وقد كنتُ عنها غافلًا، ولستُ أقدر على ذلك لأني لستُ أبصرها، فما الحيلة في تحصيل ذلك؟ فبينما هما كذلك إذ أتاهما الناظر على البستان، وكان رجلًا عالمًا، فقال له المُقعَد: وَيْحك يا ناظر! إنَّا قد اشتهينا شيئًا من هذه الثمار ونحن كما ترى؛ أنا مُقعَد وصاحبي هذا أعمى لا يبصر شيئًا، فما حيلتنا؟ فقال لهما الناظر: وَيْحكما! أَلَسْتُما تعلمان ما قد عاهَدَكما عليه صاحبُ البستان من أنكما لا تتعرَّضان لشيءٍ مما يؤثِّر فيه الفساد؟ فانتهِيَا ولا تفعلَا. فقالَا له: لا بد لنا من أن نصيب من هذه الثمار ما نأكله، فأخبِرْنا بما عندك من الحيلة. فلما لم ينتهيَا عن رأيهما، قال لهما: الحيلة في ذلك أن يقوم الأعمى ويحملك أيها المُقعَد على ظهره ويُدنِيك من الشجرة التي تعجبك أثمارها، حتى إذا أدناك منها تجني أنت ما أصبتَ من الثمار. فقام الأعمى وحمل المُقعَد، وجعل المُقعَد يهديه إلى السبيل حتى أدناه إلى شجرة، فصار المُقعَد يأخذ منها ما أحَبَّ، ولم يزل ذلك دأبهما حتى أفسدَا ما في البستان من الشجر، وإذا بصاحب البستان قد جاء وقال لهما: وَيْحكما! ما هذه الفِعال؟ أَلَمْ أعاهِدْكما على ألَّا تفسِدَا في هذا البستان؟ فقالَا له: قد علمتَ أننا لا نقدر أن نصل إلى شيءٍ من الأشياء لأن أحدنا مُقعَد لا يقوم، والآخر أعمى لا يبصر ما بين يديه، فما ذنبنا؟ فقال لهما صاحب البستان: لعلكما تظنان أني لستُ أدري كيف صنعتما وكيف أفسدتما في بستاني؟ كأني بك أيها الأعمى قد قمتَ وحملتَ المُقعَد على ظهرِكَ، وصار يهديك السبيل حتى أوصلتَه إلى الشجرة. ثم إنه أخذهما وعاقبهما عقوبةً شديدةً وأخرجهما من البستان؛ فالأعمى مثال للجسد لأنه لا يُبصِر إلا بالنفس، والمُقعَد مثال للنفس التي لا حركةَ لها إلا بالجسد، وأما البستان فإنه مثال للعمل الذي يُجازَى به العبد، والناظر مثال للعقل الذي يأمر بالخير وينهى عن الشر، فالجسد والروح مشتركان في الثواب والعقاب. قال له شماس: صدقتَ وقد قبلتُ قولك هذا، فأخبرني أي العلماء عندك أحمد؟ قال الغلام: مَن كان بالله عالمًا وينفعه علمه. قال شماس: ومَن ذلك؟ قال الغلام: مَن يلتمس رضا ربه ويتجنَّبُ سخطه. قال: فأيهم أفضل؟ قال الغلام: مَن كان بالله أعلم. قال شماس: فمَن أشدهم اختبارًا؟ قال: مَن كان على العمل بالعلم صبَّارًا. قال شماس: أخبرني مَن أرقُّهم قلبًا؟ قال: أكثرهم استعدادًا للموت وذكرًا، وأقلهم أملًا؛ لأن مَن أدخل على نفسه طوارقَ الموت كان مثل الذي ينظر في المرآة الصافية، فإنه يعرف الحقيقة، ولا تزداد المرآة إلا صفاءً وبريقًا. قال شماس: أي الكنوز أحسن؟ قال: كنوز السماء. قال: فأي كنوز السماء أحسن؟ قال: تعظيم الله وتحميده. قال: فأي كنوز الأرض أفضل؟ قال: اصطناع المعروف. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.