فلما كانت الليلة ٩١١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير شماس لما قال لابن الملك: أي كنوز الأرض أفضل؟ قال له: اصطناع المعروف. قال: صدقتَ وقد قبلتُ قولك هذا، فأخبرني عن الثلاثة المختلفة: العلم والرأي والذهن، وعن الذي يجمع بينها؟ قال الغلام: إنما العلم من التعلُّم، وأما الرأي فإنه من التجارب، وأما الذهن فإنه من التفكُّر، وثباتها واجتماعها في العقل، فمَن اجتمعَتْ فيه هذه الثلاث خصال كان كاملًا، ومَن جمع إليهن تقوى الله كان مصيبًا. قال شماس: صدقتَ وقد قبلتُ منك ذلك، فأخبرني عن العالم العليم ذي الرأي السديد والفطنة الوقَّادة والذهن الفائق الرائق، هل يغيِّره الهوى والشهوةُ عن هذه الحالات التي ذكرت؟ قال الغلام: إن هاتين الخصلتين إذا دخلتَا على الرجل غيَّرَتَا علمه وفهمه ورأيه وذهنه، وكان مثل العُقاب الكاسر الذي عن القنص محاذر، المقيم في السماء لفرط حذقه، فبينما هو كذلك إذ نظر رجلًا صيادًا قد نصب شَرَكه، فلما فرغ الرجل من نصب الشَّرَك وضَعَ فيه قطعة لحمٍ، فعند ذلك أبصَرَ العُقاب قطعةَ اللحم، فغلب عليه الهوى والشهوة حتى نسي ما شاهَدَ من الشَّرَك ومن سوء الحال لكلِّ مَن وقع من الطير، فانقَضَّ من جو السماء حتى وقع على قطعة اللحم، فاشتبك في الشَّرَك، فلما جاء الصياد رأى العُقاب في شَرَكه فتعجَّبَ عجبًا شديدًا وقال: أنا نصبتُ شَرَكي ليقع فيه حمامٌ أو نحوه من الطيور الضعيفة، فكيف وقع فيه هذا العقاب؟ وقد قيل: إن الرجل العاقل إذا حمله الهوى والشهوة على أمرٍ، يتدبَّر عاقبةَ ذلك الأمر بعقله فيمتنع ممَّا حسَّنَاه، ويقهر بعقله شهوته وهواه، فإذا حمله الهوى والشهوة على أمرٍ، ينبغي أن يجعل عقلَه مثل الفارس الماهر في فروسيته، إذا ركب الفرس الأرعن فإنه يجذبه باللجام الشديد حتى يستقيم ويمضي معه على ما يريد، وأما مَن كان سفيهًا لا علمَ له ولا رأي عنده، والأمور مشتبهة عليه والهوى والشهوة مسلَّطان عليه، فإنه يعمل بشهوته وهواه فيكون من الهالكين، ولا يكون في الناس أسوأ حالًا منه.
قال شماس: صدقتَ فيما قلتَ وقد قبلتُ ذلك منك، فأخبرني متى يكون العلم نافعًا، والعقل لوبال الهوى والشهوة دافعًا؟ قال الغلام: إذا صرَفَهما صاحبهما في طلب الآخرة؛ لأن العقل والعلم كلَيْهما نافعان، ولكن ليس ينبغي لصاحبهما أن يصرفهما في طلب الدنيا إلا بمقدار ما يصيب به قوته منها، ويدفع عن نفسه شرَّها ويصرفهما في عمل الآخرة. قال: فأخبرني ما أحقُّ أن يلزم الإنسان ويشغل به قلبه؟ قال: العمل الصالح. قال: فإذا فعل الرجل ذلك شغله عن معاشه، فكيف يفعل في المعيشة التي لا بد له منها؟ قال الغلام: إن نهاره أربعٌ وعشرون ساعة، فينبغي له أن يجعل منها جزءًا واحدًا في طلب المعيشة، وجزءًا واحدًا للدَّعَة والراحة، ويصرف الباقي في طلب العلم؛ لأن الإنسان إذا كان عاقلًا وليس عنده علم، فإنما هو كالأرض المجدبة التي ليس فيها موضع للعمل والغرس والنبات؛ فإذا لم تُهيَّأ للعمل وتُغرَس، لا ينفع فيها ثمر، وإذا هُيِّئَتْ للعمل وغُرِست أنبتَتْ ثمرًا حسنًا؛ كذلك الإنسان بغير علمٍ لا نفْعَ به حتى يُغرَس فيه العلم، فإذا غُرِس فيه العلم أثمَرَ. قال شماس: فأخبرني عن العلم بغير عقلٍ ما شأنه؟ قال: كعلم البهيمة التي تعلَّمَتْ أوانَ مطعمها ومشربها وأوانَ يقظتها ولا عقل لها. قال شماس: قد أوجزتَ في الإجابة عن ذلك، ولكنْ قد قبلتُ منك هذا الكلام، فأخبرني كيف ينبغي أن أتوقَّى السلطان؟ قال الغلام: لا تجعل له عليك سبيلًا. قال: وكيف أستطيع ألَّا أجعل له عليَّ سبيلًا وهو مسلَّط عليَّ وزمام أمري بيده؟ قال الغلام: إنما سلطانه عليك بحقوقه التي قبلك، فإذا أعطيتَه حقَّه فلا سلطان له عليك. قال شماس: ما حق الملك على الوزير؟ قال: النصيحة والاجتهاد في السرِّ والعلانية، والرأي السديد، وكتم سره، وألَّا يُخفِي عنه شيئًا ممَّا هو حقيق بالاطِّلَاع عليه، وقلة الغفلة عمَّا قلَّدَه إياه من قضاء حوائجه، وطلب رضاه بكلِّ وجهٍ، واجتناب سخطه عليه. قال شماس: فأخبرني ما الذي يفعله الوزير مع الملك؟ قال الغلام: إذا كنتَ وزيرًا للملك وأحببتَ أن تَسْلم منه، فَلْيكن سمعك وكلامك له فوق ما يؤمله منك، وَلْيكن طلبك منه الحاجة على قدر منزلتك عنده، واحذَرْ أن تُنزِلَ نفسَك منزلةً لم يَرَكَ لها أهلًا، فيكون ذلك منك مثل الجَراءة عليه.
حكاية الأسد والصياد
فإذا اغتررتَ بحلمه ونزَّلتَ نفسك منزلةً لم يَرَكَ لها أهلًا، تكون مثل الصياد الذي يصطاد الوحوش فيسلخ جلودها لحاجته إليها ويطرح لحومها، فجعل الأسد يأتي إلى ذلك المكان فيأكل من تلك الجيفة، فلما كثر تردُّدُه إلى ذلك المحل، استأنس بالصياد وألِفَه، وأقبَلَ الصيادُ يرمي إليه ويمسح يده على ظهره وهو يلعب بذيله، فعندما رأى الصيادُ سكونَ الأسدِ له واستئناسَه به وتذلُّله إليه، قال في نفسه: إنَّ هذا الأسد قد خضع إليَّ وملكتُه، وما أرى إلا أني أركبه وأسلخ جلده مثل غيره من الوحوش، فتجاسَرَ الصياد ووثَبَ على ظهر الأسد وطمع فيه، فلما رأى الأسد ما صنع الصياد، غضب غضبًا شديدًا، ثم رفع يده وضرب الصياد فدخلت مخالبه في أمعائه، ثم طرحه تحت قوائمه ومزَّقَه تمزيقًا؛ فمن ذلك علمتُ أنه ينبغي للوزير أن يكون عند الملك على حسب ما يرى من حاله، ولا يتجاسر عليه لفضل رأيه فيتغيَّر الملك عليه. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.