فلما كانت الليلة ٩١٢
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الغلام ابن الملك جليعاد قال لشماس الوزير: ينبغي للوزير أن يكون عند الملك على حسب ما يرى من حاله، ولا يتجاسر عليه لفضل رأيه، فيتغيَّر الملك عليه. قال شماس: فأخبرني ما الذي يتزيَّنُ به الوزير عند الملك؟ قال الغلام: أداء الأمانة التي فُوِّضَ إليه أمرُها من النصيحة وسداد الرأي وتنفيذه لأوامره. قال له شماس: أمَّا ما ذكرتَ من أن حقَّ الملك على الوزير أن يجتنبَ سخطه ويفعل ما يقتضي رضاه ويهتم بما قلَّدَه إياه، فإنه أمرٌ واجبٌ، ولكن أخبرني ما الحيلة إذا كان الملك إنما رضاه بالجور وارتكاب الظلم والعسف؟ فما حيلة الوزير إذا هو ابتُلِيَ بعِشْرة ذلك الملِك الجائر؟ فإنه إنْ أرادَ أن يصرفه عن هواه وشهوته ورأيه، فلا يقدر على ذلك، وإنْ هو تابَعَه على هواه وحسَّنَ له رأيه، حملَ وزْرَ ذلك وصار للرعية عدوًّا، فما تقول في هذا؟ فأجابه الغلام قائلًا: إنَّ ما ذكرتَ أيها الوزير من الوزْرِ والإثم، إنما هو إذا تابَعَه على ما ارتكبه من الخطأ، ولكن يجب على الوزير إذا شاوَرَه الملِك في مثل هذا أن يبيِّنَ له طريقَ العدل والإنصاف، ويحذِّره من الجور والاعتساف، ويعرِّفه حُسْن السيرة في الرعية، ويرغِّبه فيما في ذلك من الثواب، ويحذِّره ممَّا يلزمه من العقاب، فإنْ مال وعطف إلى كلامه حصل المراد، وإلا فلا حيلةَ له إلا بمفارَقته إياه بطريقةٍ لطيفة؛ لأن في المفارَقة لكلِّ واحدٍ منهما الراحة. قال الوزير: فأخبرني ما حق الملِك على الرعية؟ وما حق الرعية على الملِك؟ قال: الذي يأمرهم به يعملونه بنيةٍ خالصة، ويطيعونه فيما يرضيه ويرضي الله ورسوله، وحقُّ الرعية على الملِك حفْظُ أموالهم وصوْنُ حريمهم، كما أن للملك على الرعيةِ السمعَ والطاعة، وبذْلَ الأنفس دونه، وإعطاءَه واجبَ حقه، وحُسْنَ الثناء عليه بما أولاهم من عدله وإحسانه. قال شماس: قد بيَّنْتَ لي ما سألتُكَ عنه من حقِّ الملك والرعية، فأخبرني هل بقي للرعية شيءٌ على الملِك غير ما قلتَ؟ قال الغلام: نعم، حق الرعية على الملِك أوجبُ من حق الملِك على الرعية، وهو أن ضياع حقهم عليه أضرُّ من ضياع حقه عليهم؛ لأنه لا يكون هلاك الملِك وزوال مُلْكه ونعمته إلا من ضياع حقِّ الرعية، فمَن تولَّى مُلْكًا يجب عليه أن يلازم ثلاثة أشياء، وهي: إصلاح الدِّين، وإصلاح الرعية، وإصلاح السياسة، فبملازمة هذه الثلاثة يدوم ملكه. قال: فأخبرني كيف ينبغي أن يستقيم في إصلاح الرعية؟ قال: بأداء حقِّهم وإقامة سنتهم، واستعمال العلماء والحكماء لتعليمهم وإنصاف بعضهم من بعضٍ، وحَقْن دمائهم، والكف عن أموالهم، وتخفيف الثقل عنهم، وتقوية جيوشهم. قال: فأخبرني ما حق الوزير على الملك؟ قال الغلام: ليس على الملك حقٌّ لأحدٍ من الناس أوجب من الحق الواجب عليه للوزير لثلاث خصال؛ الأولى: لِلَّذي يصيبه معه عند خطأ الرأي والانتفاع العام للملك والرعية عند سداد الرأي. والثانية: ليعلم الناس حُسْنَ منزلة الوزير عند الملك، فتنظر إليه الرعية بعين الإجلال والتوقير وخفض الجناح. والثالثة: أن الوزير إذا شاهَدَ ذلك من الملك والرعية، دفع عنهم ما يكرهونه ووفى لهم بما يحبونه. قال شماس: قد سمعتُ جميعَ ما قلتَه لي من صفات الملِك والوزير والرعية وقبلته منك، فأخبرني ما ينبغي لحفْظِ اللسان عن الكذب والسفاهة وسبِّ العِرْض والإفراط في الكلام؟ قال الغلام: ينبغي للإنسان ألَّا يتكلم إلا بالخير والحسنات، ولا ينطق في شأن ما لا يعنيه، ويترك النميمة ولا ينقل عن أحدٍ حديثًا سمعه منه لعدوِّه، ولا يطلب لصديقه ولا لعدوه ضرورة عند سلطانه، ولا يَعْبأ بمَن يرتجي خيره ويتقي شره إلا الله تعالى؛ لأنه هو الضار النافع على الحقيقة، ولا يذكر لأحدٍ عيبًا ولا يتكلَّم بجهلٍ لئلا يلزمه الوزر والإثم من الله والبغض بين الناس، واعلم أن الكلام مثل السهم إذا نفَذَ لا يقدر أحدٌ على ردِّه، وَلْيحذر أن يودع سرَّه عند مَن يفشيه، فربما يقع في ضرر إفشائه بعد أن يكون على ثقةٍ من الكتمان، وأن يكون مُخفِيًا لسرِّه عن صديقه أكثر من إخفائه عن عدوه، فإن كتمان السر عن جميع الناس من أداء الأمانة. قال شماس: فأخبرني عن حُسْن الخُلُق مع الأهل والأقارب؟ قال الغلام: إنه لا راحةَ لبني آدم إلا بحُسْن الخُلُق، ولكن ينبغي أن يصرف إلى الأهل ما يستحقونه، وإلى إخوانه ما يجب لهم. قال: فأخبرني ما الذي يجب أن يصرفه إلى الأهل؟ قال: أمَّا الذي يصرفه للوالدين، فخفض الجناح، وحلاوة اللسان، ولِين الجانب، والإكرام والوقار، وأما الذي يصرفه للإخوان فالنصيحة، وبَذْل المال، ومساعدتهم على أسبابهم، والفرح لفرحهم، والإغضاء عمَّا يقع منهم من الهفوات، فإذا عرفوا منه ذلك قابَلُوه بأعزِّ ما عندهم من النصيحة، وبذلوا الأنفسَ دونه، فإذا كنتَ من أخيكَ على ثقة، فابذلْ له ودَّكَ وكُنْ مساعِدًا له على جميع أموره. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.