فلما كانت الليلة ٨٧٧
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الإفرنجي لما سأل نور الدين عن الذي عمل المنديل قال له: إن هذا المنديل شغل والدتي عملته لي بيدها. فقال له الإفرنجي: أتبيعه لي وتأخذ ثمنه مني؟ فقال له نور الدين: والله يا ملعون لا أبيعه لك ولا لغيرك، فإنها ما عملَتْه إلا على اسمي، ولم تعمل غيره. فقال له: بِعْه لي وأنا أعطيك ثمنه في هذه الساعة خمسمائة دينار، ودَعِ التي عملته تعمل لك غيره أحسن منه. فقال له نور الدين: أنا ما أبيعه أبدًا؛ لأنه لا نظيرَ له في هذه المدينة. فقال له الإفرنجي: يا سيدي، وهل تبيعه بستمائة دينار من الذهب الخالص؟ ولم يزل يزيده مائة بعد مائة إلى أن أوصله إلى تسعمائة دينار. فقال له نور الدين: يفتح الله، عليَّ بغير بيعه، أنا ما أبيعه ولا بألفَيْ دينار ولا بأكثر أبدًا. ولم يزل ذلك الإفرنجي يرغِّب نور الدين بالمال في ذلك المنديل إلى أن أوصله إلى ألف دينار، فقال له جماعة من التجار الحاضرين: نحن بعناك هذا المنديل، فادفع ثمنه. فقال نور الدين: أنا ما أبيعه والله. فقال له تاجر من التجار: اعلم يا ولدي أن هذا المنديل قيمته مائة دينار إنْ كثرت ووُجِد له راغب، وأن هذا الإفرنجي دفع فيه ألف دينار جملةً، فربحك تسعمائة دينار، فأي ربح تريد أكثر من هذا الربح؟ فالرأي عندي أنك تبيع هذا المنديل وتأخذ الألف دينار، وتقول للتي عملَتْه لك تعمل لك غيره أو أحسن منه، واربح أنت الألف دينار من هذا الإفرنجي الملعون عدو الدين. فاستحى نور الدين من التجار وباع الإفرنجي المنديلَ بألف دينار، ودفع له الثمن في الحضرة، وأراد نور الدين أن ينصرف ويمضي إلى جاريته مريم ليبشِّرَها بما كان من أمر الإفرنجي، فقال الإفرنجي: يا جماعة التجار، احجزوا نور الدين فإنكم وإياه ضيوفي في هذه الليلة، فإن عندي بتيةُ خمرٍ رومي من معتق الخمر، وخروفًا سمينًا، وفاكهةً ونُقْلًا ومشمومًا، فأنتم تؤانسوننا في هذه الليلة، ولا يتأخَّر منكم أحدٌ. فقال التاجر: يا سيدي نور الدين، نشتهي أن تكون معنا في مثل هذه الليلة لنتحدَّثَ وإياك، فمن فضلك وإحسانك أن تكون معنا، فنحن وإياك ضيوف عند هذا الإفرنجي؛ لأنه رجل كريم. ثم إنهم حلفوا عليه بالطلاق، ومنعوه بالغصب عن الرواح إلى بيته، ثم قاموا من وقتهم وساعتهم وقفلوا الدكاكين، وأخذوا نور الدين معهم وراحوا مع الإفرنجي إلى قاعة مُطيَّبة رحيبة بليوانَيْن، فأجلسهم فيها ووضع بين أيديهم سفرة غريبة الصنع بديعة العمل، فيها صورة كاسر ومكسور، وعاشق ومعشوق، وسائل ومسئول، ثم وضع الإفرنجي على تلك السفرة الأواني النفيسة من الصيني والبلور، وكلها مملوءة بنفائس النُّقْل والفاكهة والمشموم، ثم قدَّمَ لهم الإفرنجي بتيةً ملآنة بالخمر الرومي المعتَّق، وأمر بذبح خروف سمين.
ثم إن الإفرنجي أوقَدَ النارَ وصار يشوي من ذلك اللحم ويُطعِم التجار ويسقيهم من ذلك الخمر، ويغمزهم على نور الدين أن ينزلوا عليه بالشراب، فلم يزالوا يسقونه حتى سكر وغاب عن وجوده، فلما رآه الإفرنجي مستغرقًا في السُّكْر قال: آنستنا يا سيدي نور الدين في هذه الليلة، فمرحبًا بك، ثم مرحبًا بك. وصار الإفرنجي يؤانسه بالكلام، ثم تقرَّبَ منه وجلس بجانبه وسارَقَه في الحديث ساعةً زمانية، ثم قال له: يا سيدي نور الدين، هل تبيعني جاريتك التي اشتريتها بحضرة هؤلاء التجار بألف دينار من مدة سنة، وأنا أعطيك في ثمنها الآن خمسة آلاف دينار؟ فأبَى نور الدين ولم يزل ذلك الإفرنجي يُطعِمه ويسقيه ويرغِّبه في المال، حتى أوصَلَ الجارية إلى عشرة آلاف دينار؛ فقال نور الدين وهو في سُكْره قدامَ التجار: بِعْتُكَ إياها، هات العشرة آلاف دينار. ففرح الإفرنجي بذلك القول فرحًا شديدًا، وأشهَدَ عليه التجار وباتوا في أكل وشرب وانشراح إلى الصباح.
ثم صاح الإفرنجي على غلمانه وقال لهم: ائتوني بالمال. فأحضروا له المال، فعَدَّ لنور الدين العشرة آلاف دينار نقدًا وقال له: يا سيدي نور الدين، تسلَّمْ هذا المال ثمن جاريتك التي بِعْتَها لي الليلةَ بحضرة هؤلاء التجار المسلمين. فقال نور الدين: يا ملعون، أنا ما بِعْتُكَ شيئًا، وأنت تكذب عليَّ وليس عندي جوارٍ. فقال له الإفرنجي: قد بعتَني جاريتك، وهؤلاء التجار يشهدون عليك بالبيع. فقال التجار كلهم: نعم يا نور الدين، أنت بِعْتَه جاريتك قدامنا، ونحن نشهد عليك أنك بعته إياها بعشرة آلاف دينار، قُمِ اقبض الثمن وسلِّم إليه الجارية، والله يعوِّضك خيرًا منها، أتكره يا نور الدين أنك اشتريت جاريةً بألف دينار ولك سنة ونصف تتمتَّع بحُسْنها وجمالها، وتتلذَّذ في كل يوم وليلة بمُنادَمتها ووصالها، وبعد ذلك ربحتَ من هذه الجارية تسعةَ آلاف دينار فوق ثمنها الأصلي، وفي كل يوم تعمل لك منديلًا تبيعه بعشرين دينارًا، وبعد ذلك كله تُنكِر البيع وتستقلُّ الربح؟ أي ربحٍ أكثر من هذا الربح؟ وأي مكسبٍ أكثر من هذا المكسب؟ فإن كنتَ تحبها، فها أنت قد شبعتَ منها في هذه المدة، فاقبض الثمن واشترِ غيرها أحسن منها، أو نزوِّجك بنتًا من بناتنا بمهرٍ أقل من نصف هذا الثمن، وتكون البنت أجمل منها، ويصير معك باقي المال رأسَ مالٍ في يدك. ولم يزل التجار يتكلمون مع نور الدين بالملاطفة والمخادعة إلى أن قبض العشرة آلاف دينار ثمن الجارية، وأحضر الإفرنجي من وقته وساعته القضاة والشهود، فكتبوا له حجَّةً باشتراء الجارية التي اسمها مريم الزنارية من نور الدين.
هذا ما كان من أمر نور الدين، وأما ما كان من أمر مريم الزنارية، فإنها قعدت تنتظر سيدها جميع ذلك اليوم إلى المغرب، ومن المغرب إلى نصف الليل، فلم يَعُدْ إليها سيدها، فجزعت وصارت تبكي بكاءً شديدًا، فسمعها الشيخ العطار وهي تبكي، فأرسل إليها زوجته، فدخلَتْ عليها فرأتها تبكي، فقالت لها: يا سيدتي، ما لكِ تبكين؟ فقالت لها: يا أمي، إني قعدتُ أنتظر مجيءَ سيدي نور الدين، فما جاء إلى هذا الوقت، وأنا خائفة أن يكون أحدٌ عمل عليه حيلة من أجلي لأجل أن يبيعني، فدخلت عليه الحيلة وباعني. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.