فلما كانت الليلة ٩١٣
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الغلام ابن الملك جليعاد لما سأله الوزير شماس عن المسائل المتقدِّمة ورَدَّ له أجوبتها، قال له الوزير شماس: إني أرى الإخوان صنفَيْن: إخوان ثقة، وإخوان معاشَرة، أما إخوان الثقة فإنه يجب لهم ما وصفتَ، فأسألكَ عن غيرهم من إخوان المعاشَرة. قال الغلام: أمَّا إخوان المعاشَرة فإنك تصيب منهم لذةً وحُسْنَ خلقٍ وحلاوةَ لفظ وحُسْنَ معاشَرة، فلا تقطع منهم لذَّاتِكَ، بل ابذُلْ مثلَ ما يبذلونه لكَ، وعامِلْهم بمثل ما يعاملونك به من طلاقة الوجه وعذوبة اللسان، فيطيب عيشك ويكون كلامك مقبولًا عندهم.
قال شماس: قد عرفنا هذه الأمور كلها، فأخبرني عن الأرزاق المقدَّرة للخلق من الخالق، هل هي مقسومة بين الناس والحيوان، لكلِّ واحد رزقٌ إلى تمام أجله؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي يحمل طالِبَ المعيشة على ارتكاب المشقَّة في طلب ما عرف أنه إنْ كان مقدَّرًا له فلا بد من حصوله، وإنْ لم يرتكب مشقَّةَ السعي، وإنْ لم يكن مقدَّرًا له فلا يتحصَّل له ولو سعى إليه غاية السعي؟ فهل يترك السعي ويكون على ربه متوكِّلًا ولجسده ونفسه مُرِيحًا؟ قال الغلام: إنَّا قد رأينا لكلِّ واحدٍ رزقًا مقسومًا وأجلًا محتومًا، ولكنْ لكلِّ رزقٍ طريق وأسباب، فصاحِبُ الطلب يصيب في طلبه الراحةَ بترك الطلب، ومع ذلك لا بد من طلب الرزق، غير أن الطالب على ضربَيْن: إما أن يصيب، وإما أن يُحرَم. فراحة المُصِيب في الحالتين إصابةُ رزقه، وكونُ عاقبة طلبه حميدة. وراحة المحروم في ثلاث خصال: الاستعداد لطلب رزقه، والتنزُّه عن أن يكون كَلًّا على الناس، والخروج عن عهدة الملامة. قال شماس: أخبرني عن باب طلب المعيشة؟ قال الغلام: يستحلُّ الإنسان ما أحَلَّه اللهُ، ويحرِّم ما حرَّمه الله عزَّ وجلَّ.
وانقطَعَ بينهما الكلام لمَّا وصلَا إلى هذا الحد، ثم قام شماس هو ومَن حضر من العلماء وسجدوا للغلام وعظَّموه وبجَّلوه، وضمَّه أبوه إلى صدره، ثم بعد ذلك أجلَسَه على سرير الملك وقال: الحمد لله الذي رزقني ولدًا تقرُّ به عيناي في حياتي. ثم قال الغلام لشماس ومَن حضر من العلماء: أيها العالم صاحب المسائل الروحانية، إن لم يكن فتَحَ الله عليَّ من العلم إلا بشيء قليل، فإني قد فهمتُ قصدك في قبولك مني ما أتيتُ به جوابًا عمَّا سألتَني، سواء كنتُ فيه مصيبًا أو مخطئًا، ولعلك صفحتَ عن خطئي، وأنا أريد أن أسألك عن شيء عجَزَ عنه رأيي، وضاق منه ذَرْعي، وكَلَّ عن وصفه لساني؛ لأنه أشكَلَ عليَّ إشكالَ الماء الصافي في الإناء الأسود، فأحِبُّ منك أن تشرحه لي حتى لا يكون شيء منه مبهمًا على مثلي فيما يستقبل، مثل إبهامه عليَّ فيما مضى؛ لأن الله كما جعل الحياة بالماء، والقوة بالطعام، وشفاء المريض بمداواة الطبيب؛ جعل شفاءَ الجاهل بعلم العالِم، فأنصِتْ إلى كلامي. قال شماس: أيها المضيء العقل، صاحب المسائل الصالحة، ومَن شهد له العلماء كلهم بالفضل لحُسْن تفضيلك للأشياء وتقسيمك إياها، وحُسْن إصابتك في إجابتك عمَّا سألتُكَ عنه، قد علمت أنكَ لستَ تسألني عن شيءٍ إلا وأنت في تأويله أصوب رأيًا وأصدق مقالًا؛ لأن الله قد آتاكَ من العلم ما لم يُؤْتِ أحدًا من الناس، فأخبرني عن هذه الأشياء التي تريد أن تسألني عنها؟ قال الغلام: أخبرني عن الخالق جلَّتْ قدرته، من أي الأشياء خلَقَ الخَلْق؟ ولم يكن قبل ذلك شيء، وليس يُرَى في هذه الدنيا شيءٌ إلا مخلوق من شيءٍ، والبارئ تبارَكَ وتعالى قادِرٌ على أن يخلق الأشياءَ من لا شيء، ولكن اقتضَتْ إرادته مع كمال القدرة والعظمة، أنه لم يخلق شيئًا إلا من شيءٍ. قال الوزير شماس: أمَّا صنَّاع الآلات من الفخار وغيره من الصنائع، فلا يقدرون على ابتداعِ شيءٍ إلا من شيء؛ إذ هم مخلوقون، وأما الخالق الذي صنَعَ العالَمَ بهذه الصنعة العجيبة، فإن شئتَ أن تعرف قدرته تبارك وتعالى على إيجاد الأشياء، فأطِلِ الفِكْرَ في أصناف الخلق، فإنك ستجد آياتٍ وعلاماتٍ دالةً على كمال قدرته، وأنه قادر على أن يخلق الأشياء من لا شيء، بل أوجَدَها بعد العدم المحض؛ لأن العناصر التي هي مادة الأشياء كانت عدمًا محضًا، وقد أوضحتُ لك ذلك حتى لا تكون في شكٍّ منه، ويبين ذلك آية الليل والنهار، فإنهما يتعاقبان حتى إذا ذهب النهار وجاء الليل، خفي علينا النهار ولم نعرف له مقرًّا، وإذا ذهب الليل بظلمته ووحشته جاء النهار ولم نعرف لليل مقرًّا، وإذا أشرقَتْ علينا الشمس لا نعرف أين يُطوَى نورها، وإذا غربت لم نعرف مستقرَّ غروبها، وأمثال ذلك من أفعال الخالق — عزَّ اسمه وجلَّتْ قدرته — كثيرةٌ مما يحيِّر أفكارَ الأذكياء من المخلوقات.
قال الغلام: أيها العالم، إنك عرَّفتني من قدرة الخالق ما لا يستطاع إنكاره، ولكن أخبرني كيف إيجاده لخلقه؟ قال شماس: إنما الخلق مخلوقٌ بكلمته التي هي موجودة قبل الدهر، وبها خلق جميع الأشياء. قال الغلام: إن الله تعاظَمَ اسمه وارتفعَتْ قدرته، إنما أرادَ إيجادَ الخلق قبل وجودهم. قال شماس: وبإرادته خلَقَهم بكلمته، فلولا أنَّ له نطقًا وأظهر كلمة، لم تكن الخليقة موجودة. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.