فلما كانت الليلة ٩١٤
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الغلام لما سأل شماسًا عن المسائل المتقدِّمة، أجابَه عنها، ثم قال له: يا بني، إنه لا يخبرك أحدٌ من الناس بغير ما قلته إلا بتحريف الكلام الوارد في الشرائع عن موضعه، وصرْفِ الحقائق عن وجوهها، ومن ذلك قولك: إن الكلمة لها استطاعة، أعوذ بالله من هذه العقيدة، بل قولنا في الله عز وجل: إنه خلَقَ الخلْقَ بكلمته، معناه أنه تعالى واحدٌ في ذاته وصفاته، وليس معناه أن كلمة الله لها قدرةٌ، بل القدرة صفة لله، كما أن الكلام وغيره من صفات الكمال صفات لله تعالى شأنه وعزَّ سلطانه، فلا يُوصَف هو دون كلمته، ولا تُوصَف كلمته دونه، فالله جلَّ ثناؤه خلق بكلمته جميعَ خلقه، وبغير كلمته لم يخلق شيئًا، وإنما خلق الأشياء بكلمته الحق، فبالحق نحن مخلوقون. قال الغلام: قد فهمتُ من أمر الخالق وعِزَّة كلمته ما ذكرت، وقبلتُ ذلك منك بفهمٍ، ولكني سمعتُكَ تقول: إنما خلَقَ الخلْقَ بكلمته الحق، والحق ضد الباطل، فمن أين عرض الباطل؟ وكيف يمكن عروضه للحق حتى يشتبه به ويلتبس على المخلوقين، فيحتاجون إلى الفصل بينهما؟ وهل الخالق عزَّ وجَلَّ محِبٌّ لهذا الباطل أم باغض له؟ فإن قلتَ إنه محِبٌّ للحق وبه خلق خلقه، وباغض للباطل، فمِن أين دخَلَ هذا الذي يبغضه الخالق على ما يحبه وهو الحق؟ قال شماس: إن الله لما خلق الإنسانَ بالحق، ولم يكن الإنسان محتاجًا إلى توبةٍ، حتى دخل الباطل على الحق الذي هو مخلوق به، بسبب الاستطاعة التي جعلها الله في الإنسان وهي الإرادة والميل المسمَّى بالكسب، فلما دخل الباطل على الحق بهذا الاعتبار التبَسَ الباطلُ بالحقِّ بسبب إرادة الإنسان واستطاعته والكسب الذي هو الجزء الاختياري مع نصف طبيعة الإنسان، فخلَقَ اللهُ له التوبة لتصرِفَ عنه ذلك الباطل وتثبِّتُه على الحق، وخلق له العقوبة إن هو أقام على مُلابَسة الباطل.
قال الغلام: فأخبرني ما سبب عروض هذا الباطل للحق حتى التَبَسَ به؟ وكيف وجبَتِ العقوبةُ على الإنسان حتى احتاجَ إلى التوبة؟ قال شماس: إن الله لما خلق الإنسانَ بالحق جعله مُحِبًّا له، ولم يكن له عقوبة ولا توبة، واستمَرَّ كذلك حتى ركَّبَ الله فيه النفس التي هي من كمال الإنسانية مع ما هي مطبوعة عليه من الميل إلى الشهوات، فنشأ من ذلك عروض الباطل والتباسه بالحق الذي خُلِق الإنسان به وطُبِع على حبِّه، فلما صار الإنسان إلى هذه الغاية زاغَ عن الحق بالمعصية، ومَن زاغَ عن الحق إنما يقع في الباطل. قال الغلام: إن الحق إنما دخل عليه الباطل بالمعصية والمخالفة. قال شماس: وهو كذلك؛ لأن الله يحب الإنسانَ، ومن زيادة محبته له خلَقَ الإنسانَ محتاجًا إليه، وذلك هو الحق بعينه، ولكن ربما استرخى الإنسان عن ذلك بسبب ميل النفس إلى الشهوات، ومال إلى الخلاف، فصار إلى ذلك الباطل بالمعصية التي بها عصى ربه فاستوجب العقوبة، وبإزاحة الباطل عنه بتوبته ورجوعه إلى محبة الحق، استوجَبَ الثواب.
قال الغلام: أخبرني عن مبدأ المخالفة مع أن الخلق مرجعهم جميعًا إلى أن وجد بني آدم، وقد خلَقَه الله بالحق، فكيف جلب المعصيةَ لنفسه؟ ثم قُرِنت معصيته بالتوبة بعد تركيب النفس فيه لتكون عاقبته الثواب أو العقاب، ونحن نرى بعض الخلق مقيمًا على المخالفة، مائلًا إلى ما لا يحبه، مخالفًا لمقتضى أصل خلقته من حبِّ الحق، مستوجبًا لسخط ربه عليه، ونرى بعضهم مُقِيمًا على رضا خالقه وطاعته مستوجبًا للرحمة والثواب؛ فما سبب الاختلاف الحاصل بينهم؟ قال شماس: إنَّ أول نزول هذه المعصية بالخلق إنما كان بسبب إبليس الذي كان أشرَفَ ما خلق الله جلَّ اسمه من الملائكة والإنس والجن، وكان مطبوعًا على المحبة لا يعرف غيرها، فلما انفرَدَ بهذا الأمر داخَلَه العُجْب والعظمة والتجبُّر والتكبُّر عن الإيمان والطاعة لأمر خالقه، فردَّه الله دون الخلائق جميعهم، وأخرَجَه من المحبة وصيَّرَ مَثْواه إلى نفسه في المعصية، فحين علم أن اللهَ جلَّ اسمه لا يحبُّ المعصية، ورأى آدمَ وما هو فيه من ذلك الحق والمحبة والطاعة لخالقه، داخَلَه الحسدُ فاستعمل الحيلةَ في صرفه لآدم عن الحق، ليكون مشتركًا معه في الباطل، فلزم آدم العقوبة لميله إلى المعصية التي زيَّنَها له عدوُّه وانقياده إلى هواه؛ حيث خالَفَ وصيةَ ربه بسبب عروض الباطل، ولما علم الخالق — جلَّ ثناؤه وتقدَّست أسماؤه — ضَعْفَ الإنسان وسرعةَ ميله إلى عدوِّه وتركه الحق، جعل له الخالق برحمته التوبةَ لينهض بها من ورطة الميل إلى المعصية، ويحمل سلاحَ التوبة فيقهر به عدوه إبليس وجنوده، ويرجع إلى الحقِّ الذي هو مطبوع عليه، فلما نظر إبليس أن اللهَ جلَّ ثناؤه وتقدَّسَتْ أسماؤه قد جعل له أمدًا ممتدًّا، بادَرَ إلى الإنسان بالمحارَبة، وأدخَلَ عليه الحِيَلَ ليُخرِجه من نعمة ربه ويجعله شريكًا له في السخط الذي استوجبه هو وجنوده، فجعل الله جلَّ ثناؤه للإنسان استطاعةً للتوبة، وأمره أن يلزمَ الحقَّ ويداوِمَ عليه، ونهاه عن المعصية والخلاف، وألهَمَه أنَّ له على الأرض عدوًّا محارِبًا لا يفتر عنه ليله ولا نهاره؛ فبذلك استحَقَّ الإنسانُ ثوابًا إنْ لازَمَ الحقَّ الذي جُبِلت طبيعتُه على حبِّه، وعقابًا إن غلبَتْه نفسُه ومالَتْ به إلى الشهوات. وأدرَكَ شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.