فلما كانت الليلة ٩١٥
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنَّ الغلام لما سأل شماس عن المسائل المتقدمة وأجابه عنها، قال له بعد ذلك: أخبرني بأي قوة استطاع الخلْقُ أن يخالفوا خالِقَهم وهو في غاية العظمة كما وصفتَ، مع أنه لا يقهره شيء ولا يخرج عن إرادته، أَلَا ترى أنه قادرٌ على صرف خلقه عن هذه المعصية وإلزامهم المحبة دائمًا؟ قال شماس: إن الله تعالى جلَّ اسمه عادلٌ مُنصِفٌ رءوفٌ بأهل محبته، قد بيَّنَ لهم طريق الخير ومنحهم الاستطاعة والقدرة على فعل ما أرادوا من الخير، فإن عملوا بخلاف ذلك صاروا إلى الهلاك والمعصية. قال الغلام: إذا كان الخالقُ هو الذي منحهم الاستطاعةَ وهم بسببها قادرون على فعل ما أرادوا، فلأي شيء لم يَحُلْ بينهم وبين ما يريدون من الباطل حتى يردَّهم إلى الحق؟ قال شماس: ذلك لِعظيم رحمته وباهر حكمته؛ لأنه كما سبق منه لإبليس السخطُ ولم يرحمه كذلك، سبقت منه لآدم الرحمةُ بالتوبة فرضِيَ عنه بعد سخطه عليه. قال الغلام: هذا هو الحق بعينه؛ لأنه هو المجازي لكلِّ أحد على عمله، وليس خالقٌ غير الله له القدرة على كل شيء. ثم قال الغلام: هل خلق الله ما يحبُّ وما لا يحبُّ، أم إنما خلق ما يحب لا غيره؟ قال شماس: قد خلق كلَّ شيء ولم يَرْضَ إلا ما يحبُّ. قال الغلام: ما بال هذين الشيئين، أحدهما يُرضِي الله ويُوجِب الثواب لصاحبه، والآخَر يُغضِب اللهَ فيحلُّ العذاب بصاحبه؟ قال شماس: بيِّنْ لي هذين الأمرين وفهِّمْني إياهما حتى أتكلَّمَ في شأنهما. قال الغلام: هما الخير والشر المركبان في الجسم والروح. قال شماس: أيها العاقل، أراك قد علمتَ أن الخير والشر من الأعمال التي يعملها الجسد والروح، فسُمِّيَ الخير منهما خيرًا لكونه فيه رضا الله، وسُمِّيَ الشرُّ شرًّا لكونه فيه سخط الله، وقد وجب عليك أن تعرف الله وترضيه بفعل الخير؛ لأنه أمَرَنا بذلك ونهانا عن فعل الشر.
قال الغلام: إني أرى هذين الشيئين، أعني الخير والشر، إنما يعملهما الحواسُّ الخمس المعروفة في جسد الإنسان، وهي محل الذوق الناشئ عنه الكلام والسمع والبصر والشم واللمس، فأحِبُّ أن تعرِّفني هل هذه الحواسُّ الخمس خُلِقت للخير جميعًا أم للشر؟ قال شماس: افهَمْ أيها الإنسان بيانَ ما سألتَ عنه، وهو الحجة الواضحة، وضَعْها في ذهنك وأَشْرِبها قلبَكَ، وهو أن الخالق تبارك وتعالى خلق الإنسان بالحق، وطبعه على حبه ولم يصدر منه مخلوق إلا بالقدرة العلية المؤثرة في كل حادثٍ، ولا ينسب تبارك وتعالى إلا إلى الحكم بالعدل والإنصاف والإحسان، وقد خلق الإنسان لمحبته وركَّبَ فيه النَّفْس المطبوعة على الميل إلى الشهوات، وجعل له الاستطاعة، وجعل هذه الحواسَّ الخمس سببًا للنعيم أو الجحيم. قال الغلام: وكيف ذلك؟ قال شماس: لأنه خلق اللسان للنطق، واليدين للعمل، والرِّجْلين للمشي، والبصر للنظر، والأذنين للسماع، وقد أعطى كلَّ واحدةٍ من هذه الحواسِّ استطاعةً وهيَّجَها على العمل والحركة، وأمر كلَّ واحدة منها ألَّا تعمل إلا برضائه، والذي يرضيه من النطق الصدقُ وتركُ ما هو ضده الذي هو الكذب؛ وممَّا يرضيه من البصر صرفُ النظر إلى ما يحبه الله، وترك ضده وهو صرف النظر إلى ما يكرهه الله، كالنظر إلى الشهوات؛ ومما يرضيه من السمع ألَّا يستمع إلا إلى الحق كالموعظة وما في كُتُب الله، وترك ضده وهو أن يسمع ما يُوجِب سخط الله؛ ومما يرضيه من اليدين ألَّا يقبضَا ما خولَّهما الله، بل يصرفاه على وجهٍ يرضيه، وترك ضده وهو الإمساك أو صرف ما خوَّلهما الله في معصية؛ ومما يرضيه من الرِّجْلين أن يكون سعيهما في الخير كقصد التعليم، وترك ضده وهو أن يمشيَا في غير سبيل الله، وما سوى ذلك من الشهوات التي يعملها الإنسان، فإنه يصدر من الجسد بأمر الروح؛ ثم الشهوة التي تصدر من الجسد نوعان: شهوة التناسُل وشهوة البطن، فالذي يرضي الله من شهوة التناسُل أنها لا تكون إلا حلالًا، وسخطه أن تكون حرامًا، وأما شهوة البطن فالأكل والشرب، والذي يرضي الله من ذلك ألَّا يتعاطى منه كلُّ أحد إلا ما أحَلَّه له، قليلًا كان أو كثيرًا، ويحمد الله ويشكره، والذي يغضب الله منه أن يتناول ما ليس له بحقٍّ، وما سوى ذلك من هذه الأحكام باطل. وقد عملت أن الله خلق كلَّ شيء ولا يرضى إلا بالخير، وأمر كلَّ عضو من أعضاء الجسد أن يفعل ما أوجَبَه عليه؛ لأنه هو العليم الحكيم.
قال الغلام: فأخبرني هل سبق في علم الله جلَّتْ قدرته أن آدم سبب للأكل من الشجرة التي نهاه الله عنها حتى كان من أمره ما كان، وبذلك خرج من الطاعة إلى المعصية؟ قال شماس: نعم أيها العالم، قد سبق ذلك في علم الله تعالى قبل أن يخلق آدم، وبيان ذلك ودليله ما تقدَّمَ له من التحذير عن الأكل وإعلامه بأنه إذا أكَلَ منها يكون عاصيًا، وذلك من طريق العدل والإنصاف لئلا يكون لآدم حجةٌ يحتَجُّ بها على ربه، فلما أن سقط في الورطة والهفوة وعظمت عليه المعيرة والمعتبة، جرى ذلك في نسله من بعده، فبعث الله تعالى الأنبياء والرسل وأعطاهم كُتبًا، فأعلمونا بالشرائع وبيَّنوا لنا ما فيها من المواعظ والأحكام، وفصَّلوه لنا وأوضحوا لنا السبيلَ الموصل، وبيَّنوا لنا ما يجب أن نفعله وما يجب أن نتركه، فنحن مسلَّطون بالاستطاعة؛ فمَن عمل بهذه الحدود فقد أصاب وربح، ومَن تعدَّى هذه الحدود وعمل بغير هذه الوصايا فقد خالَفَ وخسر في الدارين، وهذه سبيل الخير والشر، فقد علمت أن الله قادر على جميع الأشياء، وما خلق الشهوات لنا إلا برضائه وإرادته، وأمرنا أن نأخذها على وجه الحلال لتكون لنا خيرًا، وإذا استعملناها على وجه الحرام فإنها تكون لنا شرًّا، فما أصابنا من حسنةٍ فمن الله تعالى، وما أصابنا من سيئةٍ فمن أنفسنا معاشر المخلوقين لا من الخالق تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.