فلما كانت الليلة ٩١٧
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك جليعاد لما أوصى ولده بهذه الوصية، وعهد له الملك من بعده، قال الغلام لأبيه: قد علمت يا أبتي أني لم أزَلْ لكَ مطيعًا، ولوصيتك حافظًا، ولأمرك منفِّذًا، ولرضاك طالبًا، وأنت لي نِعْمَ الأب؛ فكيف أخرج بعد موتك عمَّا ترضى به، وأنت بعد حُسْنِ تربيتي مفارِق لي، ولا أقدر على ودِّك عليَّ؟ فإذا حفظتُ وصيتك صرتُ بها سعيدًا، وصار لي النصيب الأكبر. فقال له الملك وهو في غاية الاستغراق من سكرات الموت: يا بني، الزم عشْرَ خصال ينفعك الله بها في الدنيا والآخرة، وهن: إذا اغتظْتَ فاكظم غيظك، وإذا بُلِيت فاصبر، وإذا نطقت فاصدقْ، وإذا وعدْتَ فأوفِ، وإذا حكمتَ فاعدلْ، وإذا قدرتَ فاعفُ، وأكرم قُوَّادك، واصفح عن أعدائك، وابذل معروفك لعدوِّكَ، وكُفَّ أذاكَ عنه. والزم أيضًا عشْرَ خصال أخرى ينفعك الله بها في أهل مملكتك، وهي: إذا قسمتَ فاعدل، وإذا عاقَبْتَ بحقٍّ فلا تَجُرْ، وإذا عاهَدْتَ فأوفِ بعهدك، واقبَلِ النُّصْح، واتركِ اللَّجاجة، والزمِ الرعية بالاستقامة على الشرائع والسنن الحميدة، وكُنْ حاكمًا عادلًا بين الناس حتى يحِبَّكَ كبيرهم وصغيرهم ويخافك عاتيهم ومُفسِدهم. ثم قال للحاضرين من العلماء والأمراء الذين كانوا حاضرين عهْدَه لولده بالمُلْك من بعده: إياكم ومخالَفة أمر ملككم، وترك الاستماع لكبيركم؛ فإن في ذلك هلاكًا لأرضكم، وتفريقًا لجَمْعكم، وضررًا لأبدانكم، وتلفًا لأموالكم، فتشمت بكم أعداؤكم، وها أنتم علمتهم ما عاهدتموني عليه، فهكذا يكون عهدكم مع هذا الغلام، والميثاق الذي بيني وبينكم يكون أيضًا بينكم وبينه، وعليكم بالسمع والطاعة لأمره؛ لأن في ذلك صلاح أحوالكم، واثبتوا معه على ما كنتم معي فتستقيم أموركم ويحسن حالكم، وها هو ذا ملِكُكم وولي نعمتكم والسلام.
ثم بعد هذا اشتدَّتْ به سكرات الموت والْتَجَم لسانه، فضَمَّ ابنه إليه وقبَّلَه وشكر الله، ثم قضى نحبه وطلعَتْ روحه، فناح عليه جميعُ رعيته وأهل مملكته، ثم إنهم كفَّنوه ودفنوه بإكرامٍ وتبجيلٍ وإعظامٍ، ثم رجعوا والغلام معهم فألبسوه حلةَ الملك وتوَّجُوه بتاجِ والده، وألبسوه الخاتمَ في أصبعه وأجلسوه على سرير الملك، فسار الغلام فيهم بسِيرة أبيه من الحلم والعدل والإحسان مدةً يسيرة، ثم تعرَّضَتْ له الدنيا وجذبَتْه بشهواتها، فاستغنم لذَّاتها، وأقبَلَ على زخارف أمورها، وترك ما كان قلَّدَه به أبوه من المواثيق، ونبذ الطاعة لوالده وأهمل مملكته، ومشى فيما فيه هلاكه، واشتدَّ به حبُّ النساء، فصار لا يسمع بامرأة حسناء إلا ويرسل إليها ويتزوَّج بها، فجمع من النساء عددًا أكثر ممَّا جمع سليمان بن داود ملك بني إسرائيل، وصار يختلي كلَّ يوم بطائفةٍ منهن، ويستمر مع مَن يختلي بهِنَّ شهرًا كاملًا، لا يخرج من عندهن ولا يسأل عن مُلْكه ولا عن حكمه، ولا ينظر في مَظْلمة مَن يشكو إليه من رعيته، وإذا كاتبوه فلا يردُّ لهم جوابًا، فلما رأوا منه ذلك وعَايَنوا ما هو منطوٍ عليه من ترْكِ النظر في أمورهم، وإهماله لأمور دولته وأمور رعيته، تحقَّقوا أنهم عن قليلٍ يحلُّ بهم البلاءُ، فشقَّ ذلك عليهم وأقبَلَ بعضهم على بعض يتلاومون، فقال بعضهم لبعض: امشوا بنا إلى شماس كبير وزرائه، نقصُّ عليه أمرنا ونعرِّفه ما يكون من أمر هذا الملك لينصحه، وإلا فعن قليلٍ يحلُّ بنا البلاء، فإن هذا الملك قد أدهشَتْه الدنيا بلذَّاتها، وختنته بأشطانها. فقاموا وأتوا شماسًا وقالوا له: أيها العالم الحكيم، إن هذا الملك قد أدهَشَتْه الدنيا بلذَّاتها، وختنته بأشطانها، فأقبَلَ على الباطل وسعى في فساد مملكته، وبفساد المملكة تفسد العامة ويصير أمرنا إلى الهلاك، وسببه أننا نمكث شهرًا وأيامًا ما نراه، ولا يبرز إلينا من عنده أمرٌ لا للوزير ولا لغيره، ولا يمكن أن تُرفَع إليه حاجةٌ، ولا ينظر في حكومةٍ، ولا يتعهَّد حالَ أحدٍ من رعيته لغفلته عنهم، وإننا قد أتينا إليك لنخبرك بحقيقة الأمور لأنك أكبرنا وأكمل منَّا، وليس ينبغي أن يكون بلاءٌ في أرضٍ أنت مقيمٌ بها؛ لأنك أقدر أحد على إصلاح هذا الملك؛ فانطلِقْ وكلِّمْه لعله يقبل كلامك ويرجع إلى الله.
فقام شماس ومضى إلى حيث اجتمَعَ بمَن يمكنه الوصول إليه وقال له: أيها الولد الجيد، أسألك أن تستأذن لي في الدخول على الملك؛ لأن عندي أمرًا أريد أنظر وجهه وأُخبِره به، وأسمع ما يجيبني به عنه. فأجاب الغلام قائلًا: والله يا سيدي، من منذ شهر لم يأذن لأحدٍ في الدخول عليه ولا أنا، فطول هذه المدة ما رأيتُ له وجهًا، ولكنْ أدلُّكَ على مَن يستأذنه لكَ، وهو أنك تتعلَّق بالوصيف الفلاني الذي يقوم على رأسه ويأخذ له الطعام من المطبخ، فإذا خرج إلى المطبخ ليأخذ الطعام أسأله عمَّا بَدَا لكَ، فإنه يفعل لكَ ما تريد. فانطلق شماس إلى باب المطبخ وجلس قليلًا، وإذا بالوصيف قد أقبَلَ وأراد الدخول في المطبخ، فكلَّمَه شماس قائلًا له: يا بني أحِبُّ أن أجتمِعَ بالملك لأخبره بكلامٍ يخصُّه، فمن فضلك إذا فرغ من غدائه وطابَتْ نفسه أن تكلِّمَه لي وتأخذ لي منه إذنًا بالدخول عليه، لكي أكلِّمه بما يليق به. فقال الوصيف: سمعًا وطاعة. فلما أخذ الوصيف الطعامَ وتوجَّهَ به إلى الملك وأكل منه، فلمَّا طابَتْ نفسه قال له الوصيف: إن شماسًا واقف بالباب يريد منك الإذنَ في الدخول عليك ليُعلِمك بأمورٍ تختصُّ بك. ففزع الملك وارتابَ من ذلك، وأمر الوصيف بإدخاله عليه. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.