فلما كانت الليلة ٩١٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك لما أمَرَ الوصيفَ بإدخال شماس عليه، خرج الوصيف إلى شماس ودعاه إلى الدخول، فلما دخل على الملك خرَّ لله ساجدًا وقبَّلَ يدي الملك ودعا له، فقال الملك: ما أصابَكَ يا شماس حتى طلبْتَ الدخول عليَّ؟ فقال له: إنَّ لي مدةً لم أَرَ وجهَ سيدي الملك، وقد اشتقتُ إليك كثيرًا، فها أنا شاهدتُ طلعتك وجئتُ إليك بكلامٍ أذكره لك أيها الملك المؤيَّد بكل نعمة. فقال له: قُلْ ما بَدَا لك. فقال شماس: اعلم أيها الملك أن الله تعالى رزقك من العلم والحكمة على حداثة سنِّكَ ما لم يرزقه أحدًا من الملوك قبلك، وأن الله تمَّمَ لك ذلك بالملك، وأن الله يحب أنك لا تخرج عمَّا خوَّلَكَ إياه إلى غيره بسبب عصيانك له، فلا تحاربه بذخائرك، بل ينبغي أن تكون لوصاياه حافظًا ولأموره طائعًا؛ لأني قد رأيتُكَ منذ أيام قلائل نسيتَ أباك ووصيتَه، ورفضت عهده وأضعْتَ نُصْحَه وكلامه، وزهدتَ عدله وأحكامه، ولم تذكر نعمةَ الله عليك ولم تقيدها بشكره. قال الملك: وكيف ذلك؟ وما سببه؟ قال شماس: سببه أنك تركتَ تعهُّدَ أمورِ مملكتك، وما قلَّدَكَ الله إياه من أمور رعيتك، وأقبلتَ على النَّفْس فيما حسَّنته لك من قليل شهوات الدنيا، وقد قيل: إن إصلاح الملك والدين والرعية ممَّا ينبغي للملك أن يحافظ عليه. والرأي عندي أيها الملك أن تُحسِنَ النظرَ في عاقبتك، فإنك تجد السبيل الواضح الذي فيه النجاة، ولا تُقبِلْ على اللذة القليلة الفانية الموصلة إلى ورطة الهلاك، فيصيبك ما أصاب صيَّاد السمك. فقال له الملك: وكيف كان ذلك؟
قال شماس: قد بلغني أن صيَّادًا قد أتى إلى نهرٍ ليصطاد منه على عادته، فلما وصل إلى النهر ومشى على الجسر أبصَرَ سمكةً عظيمةً، فقال في نفسه: ليس لي حاجة بالمقام ها هنا، فأنا أمشي وأتبع هذه السمكة إلى حيث تذهب حتى آخذها، وهي تُغنِيني عن الصيد مدةَ أيام، فتعرَّى من ثيابه ونزل خلف السمكة فأخذه جريانُ الماء إلى أن ظفر بالسمكة وقبض عليها، ثم التفَتَ فوجَدَ نفسه بعيدًا عن الشاطئ، فلما رأى ما قد صنع به جريانُ الماء لم يترك السمكة ويرجع، بل خاطَرَ بنفسه وقبض عليها بيده، وترك جسده سابحًا مع جريان الماء، فما زال يسحبه الماء إلى أن رماه في وسط دوَّامة لا يدخلها أحدٌ ويخلص منها، فصار يصيح ويقول: أنقذوا الغريق! فأتاه ناس من المحافظين على البحر وقالوا له: ما شأنك؟ وما دهاك حتى ألقيتَ نفسك في هذا الخطر العظيم؟ فقال لهم: أنا الذي تركتُ السبيلَ الواضح الذي فيه النجاة وأقبلتُ على الهوى والهَلَكة. فقالوا: يا هذا، كيف تركتَ سبيلَ النجاة وأدخلْتَ نفسك في هذه الهَلَكة؟ وأنت تعرف من قديمٍ أنه ما دخل ها هنا أحدٌ وسلم، فما الذي منعك عن رمي ما في يدك ونجاة نفسك، فكنت تنقذ روحك ولا تقع في هذا الهلاك الذي لا نجاة منه. والآن ليس أحدٌ منَّا ينقذك من هذه الهَلَكة. فقطع الرجل الرجاء من حياته وفقَدَ ما كان بيده ممَّا حملته نفسه عليه، وهلك هلاكًا عظيمًا. وما ضربتُ لكَ أيها الملك هذا المثلَ إلا لأجلِ أن تَدَعَ هذا الأمرَ الحقير الذي فيه اللهو عن مصالحك، وتنظر فيما أنت متقلِّده من سياسة رعيتك والقيام بنظام ملكك، حتى لا يرى أحدٌ فيك عيبًا. قال الملك: فما الذي تأمرني به؟ قال شماس: إذا كان في غدٍ وأنت بخيرٍ وعافية، فَائْذن للناس بالدخول عليك وانظر في أحوالهم واعتذر إليهم، ثم عِدْهم من نفسك بالخير وحُسْن السيرة. فقال الملك: يا شماس، إنك تكلَّمْتَ بالصواب، وإني فاعل ما نصحتني به في غدٍ إن شاء الله تعالى.
فخرج شماس من عنده وأعلم الناس بكلِّ ما ذكره، فلما أصبح الصباح خرج الملك من حجابه وأذِنَ للناس في الدخول عليه، وصار يعتذر إليهم ووعدهم أن يصنع لهم ما يحبون، فرضوا بذلك وانصرفوا وصار كلُّ واحد إلى منزله. ثم إن إحدى نساء الملك وكانت أحبهن إليه وأكرمهن عنده قد دخلَتْ عليه، فرأَتْه متغيِّرَ اللون متفكِّرًا في أموره بسبب ما سمعه من كبير وزرائه، فقالت له: ما لي أراك أيها الملك قَلِق النفس؟ هل تشتكي شيئًا؟ فقال لها: لا، وإنما استغرقتني اللذَّات عن شئوني، فما لي ولهذه الغفلة عن أحوالي وعن أحوال رعيتي؟ وإنِ استمررت على ذلك فعن قليلٍ يخرج ملكي من يدي. فأجابته قائلةً: إني أراكَ أيها الملك مع عمَّالك ووزرائك مغشوشًا، فإنهم إنما يريدون نكايتك وكيدك، حتى لا تحصل لك من ملكك هذه اللذة، ولا تغنم نعيمًا ولا راحة، بل يريدون أن تقضي عمرَك في أن تدفع المشقة عنهم، حتى إنَّ عمرك يفنى بالنَّصَب والتعب، وتكون مثل الذي قتل نفسه لإصلاح غيره، أو تكون مثل الفتى واللصوص. فقال الملك: وكيف كان ذلك؟ فقالت: ذكروا أن سبعةً من اللصوص خرجوا ذات يوم يسرقون على عادتهم، فمروا على بستانٍ فيه جوز رطب، فدخلوا ذلك البستان، وإذا هم بولدٍ صغيرٍ واقِفٍ بينهم، فقالوا له: يا فتى، هل لكَ أن تدخل معنا هذا البستان وتطلع هذه الشجرة وتأكل من جوزها كفايتك، وترمي لنا منها جوزًا؟ فأجابهم الفتى إلى ذلك ودخل معهم. وأدرك شهر زاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.