فلما كانت الليلة ٩٢٠
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشاب لما قتل زوج المرأة رجع الشابان إلى المرأة وفضحاها، وإنما قلنا لك هذا أيها الملك لتعلم أنه ليس ينبغي للرجل أن يسمع من امرأةٍ كلامًا، ولا يطيعها في أمرٍ ولا يقبل لها رأيًا في مشورةٍ، فإياك أن تلبس ثوبَ الجهل بعد ثوب الحكمة والعلم، أو تتبع الرأي الفاسد بعد معرفتك للرأي الرشيد النافع، فلا تتبعْ لذةً يسيرة مصيرها إلى الفساد ومآلها إلى الخسران الزائد الشديد. فلما سمع الملك ذلك من شماس قال له: أنا في غدٍ أخرج إليهم إن شاء الله تعالى. فخرج شماس إلى الحاضرين من كبراء المملكة وأعلَمَهم بما قال الملك، فبلغ المرأة ما قاله شماس فدخلَتْ على الملك وقالت له: إنما الرعية عبيد للملك، والآن رأيت أنك أيها الملك عبدٌ لرعيتك، بحيث تهابهم وتخاف شرَّهم، وهم إنما يريدون أن يختبروا باطنك، فإن وجدوك ضعيفًا تهاوَنوا بك، وإنْ وجدوكَ شجاعًا هابوك، وكذلك يفعل وزراء السوء بمَلِكهم؛ لأن حِيَلَهم كثيرة، وقد أوضحْتُ لكَ حقيقةَ كيدهم، فإن وافقْتَهم على ما يريدون أخرجوك من أمرك إلى مرادهم، ولم يزالوا ينقلونك من أمرٍ إلى أمرٍ حتى يوقعوك في الهَلَكة، ويكون مثلك مثل التاجر واللصوص. فقال الملك: وكيف كان ذلك؟
قالت: بلغني أنه كان تاجر له مال كثير، فانطلق بتجارة ليبيعها في بعض المدن، فلما انتهى إلى المدينة اكترى له بها منزلًا ونزل فيه، فنظره لصوصٌ كانوا يراقبون التجَّارَ لسرقة متاعهم، فانطلقوا إلى منزل ذلك التاجر واحتالوا في الدخول عليه، فلم يجدوا لهم سبيلًا إلى ذلك، فقال لهم رئيسهم: أنا أكفيكم أمره. ثم إنه انطلق فلبس ثياب الأطباء، وجعل على عاتقه جرابًا فيه شيء من الدواء، وأقبَلَ ينادي: مَن يحتاج إلى طبيب؟ حتى وصل إلى منزل ذلك التاجر، فرآه جالسًا على غدائه، فقال له: أتريد لك طبيبًا؟ فقال: لستُ محتاجًا إلى طبيب، ولكن اقعد وكُلْ معي. فقعد اللص مقابلَه وجعل يأكل معه، وكان ذلك التاجر جيد الأكل، فقال اللص في نفسه: لقد وجدتُ فرصتي. ثم التفَتَ إلى التاجر وقال له: لقد وجب عليَّ نصيحتك لما حصل لي من إحسانك، وليس يمكن أن أخفي عليك نصيحة، وهو أني أراكَ رجلًا كثيرَ الأكل، وهذا سببه مرض في معدتك، فإن لم تبادِرْ بالسعي على دوائك وإلا آلَ أمرُكَ إلى الهلاك. فقال التاجر: إن جسمي صحيح، ومعدتي سريعة الهضم، وإنْ كنتُ جيدَ الأكل فليس ببدني مرضٌ ولله الحمد والشكر. فقال له اللص: إنما ذلك بحسب ما يظهر لكَ، وإلا فقد عرفتُ أن في باطنك مرضًا خفيًّا، فإنْ أنت أطعْتَني فداوِ نفسك. فقال التاجر: وأين أجد مَن يعرف دوائي؟ فقال له اللص: إنما المداوي هو الله، ولكن الطبيب مثلي يعالج المريض على قدر إمكانه. فقال له التاجر: أَرِني الآن دوائي وأعطني منه شيئًا. فأعطاه سفوفًا فيه صبر كثير وقال له: استعمِلْ هذا في هذه الليلة. فأخذه منه، ولما كان الليل تعاطَى منه شيئًا، فرآه صبرًا كريه الطعم، فلم ينكر منه شيئًا، فلما تعاطاه وجد منه خفةً في تلك الليلة. فلما كانت الليلة الثانية جاء اللص ومعه دواء فيه صبرٌ أكثر من الأول، فأعطاه منه شيئًا، فلما تعاطاه أسهله تلك الليلة، ولكنه صبر على ذلك ولم ينكره. فلما رأى اللص أن التاجر اعتنى بقوله واستأمَنَه على نفسه وتحقَّقَ أنه لا يخالفه، انطلق وجاءه بدواءٍ قاتلٍ وأعطاه له، فأخذه منه التاجر وشربه، فعندما شرب ذلك الدواءَ نزل ما كان في بطنه، وتقطَّعَتْ أمعاؤه وأصبح ميتًا، فقام اللصوص وأخذوا جميعَ ما كان للتاجر. وإني أيها الملك ما قلتُ لكَ هذا إلا لأجل أنك لا تقبل من هذا المخادع كلامًا، فيُلحِقك أمورًا تهلك بها نفسك. فقال الملك: صدقتِ فأنا لا أخرج إليهم.
فلما أصبح الصباح اجتمَعَ الناس وجاءوا إلى باب الملك وقعدوا أكثر النهار حتى يئسوا من خروجه، ثم رجعوا إلى شماس وقالوا له: أيها الفيلسوف الحكيم والماهر العليم، أَمَا ترى هذا الولد الجاهل لا يزداد إلا كذِبًا علينا؟ وأن إخراج المُلْكِ من يده واستبدال غيره به فيه الصواب، فتنتظم بذلك أحوالنا وتستقيم أمورنا؟ ولكن ادخل إليه ثالثًا وأعلِمْه أنه لا يمنعنا من القيام عليه ونزع المُلْك منه إلا إحسانُ والده إلينا، وما أخذه علينا من العهود والمواثيق، ونحن مجتمعون في غدٍ عن آخِرنا بسلاحنا ونهدم باب هذا الحصن، فإن خرج إلينا وصنع لنا ما نحبُّ، فلا بأس وإلا دخلنا عليه وقتلناه، وجعلنا المُلْكَ في يد غيره. فانطلق الوزير شماس ودخل على الملك وقال له: أيها الملك المنهمِك في شهواته ولهوه، ما هذا الذي تصنعه بنفسك؟ فيا هل ترى مَن يُغرِيك على هذا؟ فإن كنتَ أنت الجاني على نفسك، فقد زال ما نعهده لكَ من الصلاحية والحكمة والفصاحة، فليت شعري مَن الذي حوَّلَكَ ونقلَكَ من العلم إلى الجهل، ومن الوفاء إلى الجفاء، ومن اللين إلى القسوة، ومن قبولك مني إلى إعراضك عني، فكيف أنصحك ثلاثَ مرات ولا تقبل نصيحتي؟! وأشير عليك بالصواب وتخالِف مشورتي؟! فأخبرني ما هذه الغفلة؟ وما هذا اللهو؟ ومَن أغراك عليه؟ اعلمْ أن أهل مملكتك قد تواعَدُوا على أنهم يدخلون عليك ويقتلونك ويعطون مُلْكَك لغيرك، فهل لك قوةٌ على جميعهم والنجاة من أيديهم؟ أو تقدر على حياة نفسك بعد قتلها؟ فإنْ كنتَ أعطيتَ هذا كله، أمنت من قبله فلا حاجة لك بكلامي، وإن كانت حاجتك إلى الدنيا والملك فأَفِقْ لنفسك واضبط ملكك، وأظهِرْ للناس قوةَ بأسك وأعلمهم بأعذارك، فإنهم يريدون انتزاعَ ما في يدك وتسليمه إلى غيرك، وقد عزموا على العصيان والمخالَفة، وصار دليل ذلك ما يعلمونه من صِغَر سنك، ومن انكبابك على اللهو والشهوات، فإن الحجارة إذا طال مكثها في الماء متى أُخرِجت منه وضرب بعضها بعضًا انقدحت منها النار، والآن رعيتُكَ خلق كثير، وهم يتوازرون عليك ويريدون نقل المُلْك منك إلى غيرك، ويبلغون فيك ما يريدون من هلاكك، ويكون مثلك مثل الثعلب والذئب. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.