فلما كانت الليلة ٩٢٣
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن شماسًا خرج إلى الدولة وقال لهم: إن الملك في غدٍ يخرج إليكم ويصنع لكم ما تحبون. فانصرفوا إلى منازلهم. هذا ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر الملك، فإنه بعث إلى العشرة عبيد الجبابرة الذين اختارهم من جبابرة أبيه، وكانوا ذوي عزمٍ جليد وبأسٍ شديد، وقال لهم: قد علمتم ما كان لكم عند والدي من الحظوة ورفعة الشأن والإحسان إليكم، مع لطفه بكم وإكرامه إياكم، فأنا أنزلكم بعده عندي في درجةٍ أرفع من تلك الدرجة، وسأعرِّفكم سببَ ذلك وأنتم في أمان الله مني، ولكن أسألكم عن مسألةٍ، هل تكونون معي فيها طائعين لأمري فيما أقوله لكم، كاتمين لسري عن جميع الناس، ولكم مني الإحسانُ فوق ما تريدون حيث امتثلتم أمري؟ فأجابه العشرة من فمٍ واحدٍ وكلام متوارد قائلين: جميع ما تأمرنا به يا سيدنا نحن به عاملون، ولا نخرج عمَّا تشير به علينا مطلقًا، وأنت وليُّ أمرنا. فقال لهم: أحسَنَ الله لكم، فأنا الآن أعرِّفكم سببَ اختصاصكم بمزيد الإكرام عندي؛ هو أنكم قد علمتم ما كان يفعله أبي بأهل مملكته من الإكرام، وما عاهَدَهم عليه من أمري وإقرارهم له بأنهم لا ينكثون لي عهدًا ولا يخالفون أمري، وقد نظرتم ما كان منهم بالأمس حيث اجتمعوا جميعًا حولي يريدون قتلي، وأنا أريد أن أصنع بهم أمرًا؛ وذلك أني نظرت ما كان منهم بالأمس، فرأيتُ أنه لا يزجرهم عن مثله إلا نكالهم، فلا بد أن أوكلكم بقتل مَن أشير لكم بقتله سرًّا حتى أدفع الشر والبلاء عن بلادي بقتل أكابرهم ورؤسائهم، وطريقة ذلك أني أقعد في هذا المقعد في هذه المقصورة في غدٍ، وآذن لهم بالدخول عليَّ واحدًا بعد واحد، وأن يدخلوا من بابٍ ويخرجوا من آخَر، فقفوا أنتم العشرة بين يدَيْ فاهمين لإشارتي، وكلما يدخل واحد فخذوه وادخلوا به هذا البيت واقتلوه وأَخْفوا جثته. فقالوا: سمعًا لقولك وطاعة لأمرك. فعند ذلك أحسَنَ إليهم وصرفهم وبات.
فلما أصبح طلَبَهم، وأمر بنصب السرير، ثم لبس ثياب الملك وأخذ في يده كتابَ القضاء وأمر بفتح الباب ففُتِح، وأوقف العشرة عبيد بين يدَيْه، ونادى المنادي: مَن كان له حكومة فَلْيحضر إلى بساط الملك. فأتى الوزراء والقوَّاد والحجَّاب ووقف كلُّ واحدٍ في مرتبته، ثم أمر بالدخول واحدًا بعد واحدٍ، فدخل شماس الوزير أولًا كما هي عادة الوزير الأكبر، فلما دخل واستقَرَّ قدام الملك لم يشعر إلا والعشرة عبيد محتاطون به وأخذوه وأدخلوه البيت وقتلوه، وأقبلوا على باقي الوزراء، ثم العلماء، ثم الصلحاء، فصاروا يقتلونهم واحدًا بعد واحد حتى فرغوا من الجميع، ثم دعا بالجلادين وأمرهم بحطِّ السيف فيمَن بقي منهم من أهل الشجاعة وقوة البأس، فلم يتركوا أحدًا ممَّن يعرفون أن له شهامةً إلا قتلوه، ولم يتركوا إلا سَفَلةَ الناس ورعاعهم، ثم طردوهم ولحق كلُّ واحد منهم بأهله، ثم بعد ذلك اختلى الملك بلذاته وأعطى نفسه شهواتها، واتَّبَع البَغْي والجَوْر والظلم حتى سبق مَن تقدَّمه من أهل الشر، وكانت بلاد هذا الملك معدن الذهب والفضة والياقوت والجواهر، وجميع مَن حوله من الملوك يحسدونه على هذه المملكة ويتوقَّعون له البلاء، فقال في نفسه بعضُ الملوك المجاورين له: إني ظفرتُ بما كنتُ أريد من أخذ هذه المملكة من يد هذا الولد الجاهل، بسبب ما حصل من قَتْله لأكابر دولته وأهل الشجاعة والنجدة الذين كانوا في أرضه، فهذا هو وقت الفرصة وانتزاع ما في يده لكونه صغيرًا، ولا درايةَ له بالحرب ولا رأي له، ولم يَبْقَ عنده مَن يرشده ولا يُعضِّده، فأنا اليوم أفتح معه باب الشرِّ، وهو أني أكتب له كتابًا وأعبث به فيه، وأبكِّتُه على ما حصل منه، وأنظر ما يكون من جوابه.
فكتب له مكتوبًا مضمونه: «بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فقد بلغني ما فعلتَ بوزرائك وعلمائك وجبابرتك، وما أوقعتَ نفسك فيه من البلاء حتى لم يَبْقَ لكَ طاقة ولا قوة على دَفْع مَن يصول عليك حين طغيتَ وأفسدت، وإن الله قد أعطاني النصرَ عليك وظفرني بك، فاسمع كلامي وامتثِلْ أمري وابْنِ لي قصرًا منيعًا في وسط البحر، وإن لم تقدر على ذلك فاخرجْ من بلادك وفُزْ بنفسك، فإني باعث إليك من أقصى الهند اثني عشر كردوسًا، كل كردوس اثنا عشر ألف مقاتل، فيدخلون بلادك، وينهبون أموالك، ويقتلون رجالك، ويَسْبون حريمك، وأجعل قائدهم بديعًا وزيري وآمُره أن يرسخ عليها محاصِرًا إلى أن يملكها، وقد أمرتُ هذا الغلام المرسَل إليك أنه لا يقيم عندك غير ثلاثة أيام، فإنِ امتثلتَ أمري نجوتَ، وإلا أرسلتُ إليك ما ذكرتُه لك.» ثم ختم الكتاب وأعطاه للرسول، فسار به حتى وصل إلى تلك المدينة ودخل على الملك وأعطاه الكتاب، فلما قرأه الملك ضعُفَتْ قوته وضاق صدره، والتبس عليه أمره وتحقَّق الهلاك، ولم يجد مَن يستشيره ولا مَن يستعين به ولا مَن ينجده، فقام ودخل على زوجته وهو متغيِّر اللون، فقالت له: ما شأنك أيها الملِك؟ فقال لها: لستُ اليومَ بملِكٍ ولكني عبدٌ للملِك. ثم فتَحَ الكتاب وقرأه عليها، فلما سمعته أخذتْ في البكاء والنحيب وشقَّتْ ثيابها، فقال لها الملك: هل عندك شيء من الرأي والحيلة في هذا الأمر العسير؟ فقالت له: وما عند النساء من الحيلة في الحروب؟ والنساء لا قوةَ لهن ولا رأيَ لهن، وإنما القوة والحيلة للرجال في مثل هذا الأمر. فلما سمع الملك منها ذلك الكلام حصل له غاية الندم والتأسُّف والكآبة على ما فرط منه في حقِّ جماعته ورؤساء دولته. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.