فلما كانت الليلة ٩٢٤
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك لما سمع من زوجته ذلك الكلام حصل له غاية الندم والتأسُّف على ما فرط منه من قتل وزرائه وأشراف رعيته، وتمنَّى الموت لنفسه قبل أن يَرِدَ عليه مثلُ هذا الخبر الفظيع، ثم قال لنسائه: لقد وقع لي منكن ما وقع للدُّرَّاج مع السلاحف. فقلن له: وكيف كان ذلك؟ فقال الملك: زعموا أن سلاحف كانت في جزيرة من الجزائر، وكانت تلك الجزيرة ذات أشجار وأثمار وأنهار، فاتفق أن دُرَّاجًا اجتازَ بها يومًا، وقد أصابه الحر والتعب، فلما أضرَّ به ذلك حطَّ من طيرانه في تلك الجزيرة التي بها تلك السلاحف، فلما رأى السلاحف التجَأَ إليها ونزل عندها، وكانت السلاحف ترعى في جهات الجزيرة، ثم ترجع إلى مكانها، فلما رجعتْ من مسارحها إلى مكانها رأت الدُّرَّاج فيه، فلما رأته أعجَبَها وزيَّنه الله لها، فسبَّحَتْ خالقها وأحَبَّتْ هذا الدُّرَّاج حبًّا شديدًا وفرحت به، ثم قال بعضها لبعض: لا شكَّ أن هذا أحسن الطيور. فصارت كلها تلاطفه وتجنح إليه، فلما رأى منها عين المحبة مالَ إليها واستأنَسَ بها، وصار يطير إلى أي جهة أراد وعند المساء يرجع إلى المبيت عندها، فإذا أصبَحَ الصباح يطير إلى حيث أراد، وصارت هذه عادته واستمرَّ على هذا الحال مدةً من الزمان، فلما رأت السلاحف أن غيابه عنها يوحشها وتحقَّقَتْ أنها لا تراه إلا في الليل، وإذا أصبح طار مبادرًا ولا تشعر به مع زيادة حبِّها له، قال بعضها لبعض: إن هذا الدُّرَّاج قد أحببناه وصار لنا صديقًا، وما بقي لنا قدرة على فراقه، فما يكون من الحيلة الموصلة إلى إقامته عندنا دائمًا؛ لأنه إذا طار يغيب عنَّا النهار كله ولا نراه إلا في الليل؟ فأشارَتْ عليها واحدة قائلة: استريحوا يا أخواتي وأنا أجعله لا يفارقنا طرفةَ عين. فقال لها الجميع: إن فعلتِ ذلك صرنا لكِ كلنا عبيدًا.
فلما حضر الدُّرَّاج من مسرحه وجلس بينهم، تقرَّبَتْ منه السلحفاة المحتالة ودعَتْ له وهنَّأته بالسلامة، وقالت له: يا سيدي، اعلم أن الله قد رزقك منَّا المحبةَ، وكذلك أودع قلبك محبتنا، وصرتَ لنا في هذا القفر أنيسًا، وأحسن أوقات المحبين إذا كانوا مجتمعين، والبلاء العظيم في البُعْد والفراق، ولكنك تتركنا عند طلوع الفجر ولا تعود إلينا إلا عند الغروب، فيصير عندنا وحشة زائدة، وقد شقَّ علينا ذلك كثيرًا ونحن في وَجْدٍ عظيم لهذا السبب. فقال لها الدُّرَّاج: نعم، أنا عندي محبة لكنَّ، واشتياق عظيم إليكن، زيادة على ما عندكن، وفراقُكن ليس سهلًا عندي، ولكنْ ما بيدي حيلة في ذلك لكوني طيرًا بأجنحة، فلا يمكنني المقام معكن دائمًا؛ لأن هذا ليس من طبعي، فإن الطير ذا الأجنحة ليس له مستقرٌّ إلا في الليل لأجل النوم، وإذا أصبح طار وسرح في أي موضع أعجبه. فقالت له السلحفاة: صدقتَ، ولكنْ ذو الأجنحة في غالب الأوقات لا راحةَ له، لكونه لا يناله من الخير ربع ما يحصل له من المشقة، وغاية المقصود للشخص الرفاهية والراحة، ونحن قد جعل الله بيننا وبينك المحبةَ والألفة، ونخشى عليك ممَّن يصطادك من أعدائك فتهلك ونُحرَم من رؤية وجهك. فأجابها الدُّرَّاج قائلًا: صدقتِ، ولكن ما عندك من الرأي والحيلة في أمري؟ فقالت له: الرأي عندي أن تنتف سواعدك التي تسرع بطيرانك، وتقعد عندنا مستريحًا، وتأكل من أكلنا وتشرب من شربنا في هذه السرحة الكثيرة الأشجار اليانعة الأثمار، ونقيم نحن وأنت في هذا الموضع المُخصِب، ويتمتَّع كلٌّ منَّا بصاحبه. فمال الدُّرَّاج إلى قولها وقصد الراحة، ثم نتف ريشه واحدة بعد واحدة حكم ما استحسنه من رأي السلحفاة، واستقر عندهن عائشًا معهن، ورضي باللذة اليسيرة والطرب الزائل.
فبينما هم على تلك الحالة، وإذا بابن عرس قد مرَّ عليه، فرمقه بعينه وتأمَّله، فرآه مقصوص الجناح لا يستطيع النهوض، فلما رآه على تلك الحالة فَرِحَ به فرحًا شديدًا وقال في نفسه: إن هذا الدُّرَّاج سمين اللحم قليل الريش. ثم دنا منه ابن عرس وافترسه، فصاح الدُّرَّاج وطلب النجدة من السلاحف، فلم يَنجدْنَه بل تباعدْنَ عنه وانكمشْنَ في بعضهن لمَّا رأيْنَ ابن عرس قابضًا عليه، وحيث رأيْنَ ابن عرس يعذِّبه خنقهنَّ البكاء عليه، فقال لهن الدُّرَّاج: هل عندكن شيء غير البكاء؟ فقلن له: يا أخانا، ليس لنا قوة ولا طاقة ولا حيلة في أمر ابن عرس. فحزن الدُّرَّاج عند ذلك وقطع الرجاء من حياة نفسه، وقال لهن: ليس لكنَّ ذنب، إنما الذنب لي حيث أطعتكنَّ ونتفتُ أجنحتي التي أطيرُ بها، فأنا أستحق الهلاكَ لمطاوعتي لكنَّ، ولا ألومكنَّ في شيءٍ. وأنا الآن لا ألومكنَّ أيتها النساء بل ألوم نفسي وأؤدِّبها؛ حيث لم أتذكَّر أنكن سبب الهفوة التي حصلَتْ من أبينا آدم، ولأجلها خرج من الجنة، ونسيت أنكنَّ أصلُ كل شرٍّ، فأطعتكنَّ بجهلي وخطأ رأيي وسوء تدبيري، وقتلتُ وزرائي وحكَّام مملكتي الذين كانوا إليَّ نصحاء في كلِّ الأمور، وكانوا عزَّتي وقوَّتي على كلِّ أمرٍ أهمني، فأنا الآن لم أجد عوضًا عنهم، ولا أرى أحدًا يقوم مقامهم، وقد وقعتُ في الهلاك العظيم. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.