فلما كانت الليلة ٩٢٦
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الغلام لما جاء إلى الملك وسلَّمَ عليه أمره بالجلوس فجلس، فقال له: هل تعرف مَن تكلَّمَ معك بالأمس؟ قال الغلام: نعم. قال له: فأين هو؟ فأجابه بقوله: هو الذي يكلِّمني في هذا الوقت. فقال له الملك: لقد صدقتَ أيها الحبيب. ثم أمر الملك بوضع كرسي بجانب كرسيه وأجلسه عليه وأمر بإحضار أكل وشرب، ثم امتزجَا في الحديث إلى أن قال الملك للغلام: إنك أيها الوزير حدَّثْتَني بالأمس حديثًا وذكرتَ فيه أن معك حيلةً تدفع بها عنَّا كيدَ ملك الهند، فما هي الحيلة؟ وكيف التدبير في دفع شَرِّه عنَّا؟ فأخبرني لكي أجعلك أولَّ مَن يتكلَّم معي في المُلْك وأصطفيك وزيرًا لي، وأكون تابعًا لرأيك في كلِّ ما أشرتَ به عليَّ، وأجيزك جائزة سنية. فقال له الغلام: جائزتك لك أيها الملك، والمشورة والتدبير عند نسائك اللاتي أشرْنَ عليك بقتل والدي شماس مع بقية الوزراء. فلما سمع الملك منه ذلك خجل وتنهَّدَ وقال: أيها الولد الحبيب، وهل شماس والدك كما ذكرتَ؟ فأجابه الغلام قائلًا: إن شماسًا والدي حقًّا، وأنا ولده صدقًا. فعند ذلك خشع الملك ودمعت عيناه واستغفر الله وقال: أيها الغلام، إني فعلتُ ذلك بجهلي وسوء تدبير النساء وكيدهن عظيم، ولكن أسألك أن تكون مسامِحًا لي، وإني جاعلك في موضع أبيك وأعلى مقامًا من مقامه، وإذا زالت هذه النقمة النازلة بنا طوَّقتك بطوق الذهب، وأركبتُكَ أعزَّ مركوبٍ، وأمرتُ المنادي أن ينادي قدامك قائلًا: هذا الولد العزيز صاحب الكرسي الثاني بعد الملك. وأما ما ذكرتَ من أمر النساء، فإني أضمرتُ الانتقامَ منهن وجعلته في الوقت الذي يريده الله تعالى، فأخبِرْني بما عندك من التدبير ليطمئن قلبي. فأجابه الغلام قائلًا: أعطِني عهدًا أنك لا تخالِف رأيي فيما أذكره لك، وأن أكون ممَّا أخشاه في أمان. فقال له الملك: هذا عهد الله بيني وبينك، إني لا أخرج عن كلامك وإنك عندي صاحب المشورة، ومهما أمرتَني به فعلتُه، والشاهد بيني وبينك على ما أقول هو الله تعالى.
فعند ذلك انشرَحَ صدر الغلام واتسع عنده مجال الكلام فقال: أيها الملك، إن التدبيرَ والحيلةَ عندي أنك تنظر الوقت الذي يحضر لك فيه الساعي طالب الجواب بعد المهلة التي أمهلته إياها، فإذا حضر بين يدَيْكَ وطلب الجواب، فادفعه عنك وأمهله إلى يوم آخَر، فعند ذلك يعتذر إليك أن ملكه حدَّدَ عليه أيامًا معلومة ويراجعك في كلامك، فاطرحه وأمْهِلْه إلى يومٍ آخَر ولا تعيِّن له ذلك اليوم؛ فيخرج من عندك غضبانًا ويتوجَّه إلى وسط المدينة ويتكلَّم جهرًا بين الناس ويقول: يا أهل المدينة، إني ساعي ملك الهند الأقصى، وهو صاحب بأسٍ شديدٍ وعزمٍ يلين الحديد، قد أرسلني بكتابٍ إلى ملك هذه المدينة وحدَّدَ لي أيامًا وقال: إنْ لم تحضر عقبَ الأيام التي حدَّدْتُها لكَ حلَّتْ بك نقمتي، وها أنا جئتُ إلى ملِك هذه المدينة وأعطيتُه الكتابَ، فلما قرأه أمهلني ثلاثة أيام، ثم يعطيني جوابَ ذلك الكتاب، فأجبتُه إلى ذلك لطفًا به ورعاية لخاطره، وقد مضَتِ الثلاثة أيام وأتيتُ أطلب منه الجواب، فأمهلني إلى يوم آخَر، وأنا ليس عندي صبر، فها أنا منطلق إلى سيدي ملك الهند الأقصى وأخبره بما وقع لي، وأنتم أيها القوم شاهِدون بيني وبينه. فعند ذلك يبلغك كلامه فأرسِلْ إليه وأحضِرْه بين يدَيْكَ وكلِّمه بلطفٍ وقُلْ له: أيها الساعي لإتلاف نفسه، ما الذي حملك على ملامتنا بين رعيتنا؟ لقد استحقَقْتَ منَّا التلفَ عاجلًا، ولكن قالت القدماء: العفو من شِيَم الكرام. واعلم أن تأخيرَ الجواب عنك ليس عجزًا منَّا، وإنما هو لزيادة أشغالنا وقلة تفرُّغنا لكتابة جواب ملِكِكم. ثم اطلب الكتابَ واقرأه ثانيًا، وبعد أن تفرغ من قراءته أكثِرْ من الضحك وقُلْ له: هل معك كتاب غير هذا الكتاب فنكتب جوابًا له أيضًا؟ فيقول لك: ليس معي كتاب غير هذا الكتاب. فأَعِدْ عليه القولَ ثانيًا، فيقول لك: ليس معي غيره أصلًا. فقُلْ له: إن ملِكَكم هذا معدوم العقل حيث ذكر في هذا الكتاب كلامًا ما يريد به تقويم نفوسنا لأجل أن نتوجَّهَ بعسكرنا إليه فنغزو بلاده ونأخذ مملكته، ولكن لا نؤاخذه في هذه المرة على إساءة أدبه بهذا المكتوب؛ لأنه قاصِر العقل ضعيف الحزم، فالمناسب لمقدرتنا أننا ننذره أولًا ونحذِّره من أن يعود لمثل هذه الهذيانات، فإن خاطَرَ بنفسه وعاد إلى مثلها استحَقَّ البلاءَ عاجلًا، وأظنُّ أن الملِك الذي أرسَلَكَ جاهلٌ أحمق غير مفكِّر في العواقب، وليس له وزير عاقل سديد الرأي يستشيره، ولو كان عاقلًا لاستشارَ وزيرًا قبل أن يرسل إلينا مثل هذا الكلام السخرية، ولكن له عندي جواب مثل كتابه وأزيد، وأنا أدفع كتابه لبعض صبيان المكتب ليُجِيبه. ثم أرسِلْ إليَّ واطلبني، فإذا حضرتُ بين يدَيْكَ فَأْذَنْ لي بقراءة الكتاب وردِّ جوابه.
فعند ذلك انشرَحَ صدر الملك واستحسن رأي الغلام، وأعجبته حيلته، فأنعَمَ عليه وخوَّلَه رتبة والده وصرفه مسرورًا، فلما انقضَتِ الثلاثة أيام التي جعلها مهلةً للساعي، جاء الساعي ودخل على الملك وطلب الجواب، فأمهله الملك إلى يوم آخَر، فخرج الساعي إلى آخِر البساط وتكلَّمَ بكلامٍ غير لائق مثلما قال الغلام، ثم خرج إلى السوق وقال: يا أهل هذه المدينة، إني رسول ملك الهند الأقصى إلى ملِكِكم، جئْتُه برسالةٍ وهو يماطلني في جوابها، وقد انقضَتِ المدة التي حدَّدَها لي ملِكُنا، ولم يَبْقَ لملِكِكم عذرٌ، فأنتم تكونون شهداء على ذلك. فلما بلغ الملك هذا الكلام أرسَلَ إلى ذلك الساعي وأحضَرَه بين يدَيْه وقال له: أيها الساعي في إتلاف نفسه، ألستَ ناقلًا كتابًا من ملك إلى ملك وبينهما أسرار، فكيف تخرج بين الناس وتُظهِر أسرارَ الملوك على العامة؟! لقد استحقَقْتَ منَّا القصاص، ولكن نحن نتحمَّل ذلك لأجل عود جوابك لهذا الملك الأحمق، والأنسب ألَّا يردَّ له جوابًا عنَّا إلا أقل صبيان المكتب. ودعا بحضور ذلك الغلام فحضر، ولما دخل على الملك والساعي حاضِر، سجَدَ لله ودعا للملك بدوام العز والبقاء، فعند ذلك رمى الملك الكتابَ للغلام وقال له: اقرأ هذا الكتاب واكتب جوابه بسرعةٍ. فأخذ الغلام الكتابَ وقرأه وتبسَّمَ بالضحك وقال للملك: هل إرسالك خلفي لأجل جواب هذا الكتاب؟ فقال له: نعم. فأجاب: بمزيد السمع والطاعة. وأخرج الدواةَ والقرطاسَ وكتب … وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.