فلما كانت الليلة ٩٢٧
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الغلام لما أخَذَ الكتابَ وقرأه، أخرَجَ في الوقت دواةً وقرطاسًا، وكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم، السلام على مَن فاز بالأمان ورحمة الرحمن. أما بعدُ، فإني أُعلِمُكَ أيها المدعوُّ ملِكًا كبيرًا اسمًا لا رسمًا، أنه قد وصل إلينا كتابُكَ وقرأناه وفهمنا ما فيه من الخرافات وغريب الهذيانات، فتحقَّقْنا جهلك وبغيك علينا، وقد مددتَ يدَيْكَ إلى ما لا تقدر عليه، ولولا أن الرأفة أخذتنا على خلق الله والرعية لما تأخَّرْنا عنكَ، وأمَّا رسولك فإنه خرج إلى السوق ونشر أخبار كتابك على الخاص والعام فاستحقَّ منَّا القصاص، ولكن أبقيناه رحمةً منَّا له لكونه معذورًا معك، ولم نترك قصاصه وقارًا لك، فأما ما ذكرتَه في كتابِكَ من قتلي لوزرائي وعلمائي وكبراء مملكتي فإن ذلك حقٌّ، ولكن لسببٍ قام عندي، وما قتلتُ من العلماء واحدًا إلا وعندي من جنسه ألفٌ أعلم منه وأفهم وأعقل، وليس عندي طفل إلا وهو ممتلئ من العلوم، وعندي عوضًا عن كلِّ واحد من المقتولين من فضلاء نوعه ما لا أقدر أن أحصيه، وكل واحد من عسكري يقاوِم كردوسًا من عسكرك؛ وأما من جهة المال، فإن عندي معمل الذهب والفضة، وأما المعادن فإنها عندي كقِطَع الحجارة، وأما أهل مملكتي فإني لا أقدر أن أصف لك حسنهم وجمالهم وغناهم، فكيف تجاسَرْتَ علينا وقلتَ لنا: ابْنِ لي قصرًا في وسط البحر؟ فإن هذا أمر عجيب، ولعله ناشئ عن سخافة عقلك؛ لأنه لو كان لك عقل لَكنتَ فحصْتَ عن دفعات الأمواج وحركات الرياح وأنا أبني لك القصر؛ وأمَّا زعمك أنك تظفر بي، فحاشا لله من ذلك، كيف يبغي علينا مثلك ويظفر بملكنا؟ بل إن الله تعالى أظفرني بك لكونك متعدِّيًا وباغيًا عليَّ بغير حقٍّ، فاعلم أنك قد استوجبْتَ العذاب من الله ومني، ولكن أنا أخاف الله فيك وفي رعيتك، ولا أركب عليك إلا بعد النذارة، فإن كنتَ تخشى الله فعجِّلْ لي بإرسال خراج هذه السنة، وإلا لَأرجع عن الركوب عليك ومعي ألف ألف ومائة ألف مقاتل كلهم جبابرة بأفيالٍ فأسردهم حول وزيرنا وآمره أن يقيم على محاصرتك ثلاثَ سنوات نظير الثلاثة أيام التي أمهلتها لقاصدك، وأتملك مملكتك بحيث لا أقتل منها أحدًا غير نفسك، ولا أسبي منها غير حريمك.» ثم صوَّرَ الغلامُ في المكتوب صورتَه وكتب بجانبها: «إن هذا الجواب كتَبَه أصغر أولاد الكتَّاب.» ثم ختمه وسلَّمَه إلى الملك، فأعطاه الملك للساعي، فأخذه الساعي وقبَّلَ يدَيِ الملك ومضى من عنده شاكرًا لله تعالى وللملك على حِلْمه عليه، وانطلق وهو يتعجَّبُ مما رأى من حذق الغلام.
فلما وصل إلى ملِكه وكان دخوله عليه في اليوم الثالث بعد الثلاثة أيام المحدودة له، وكان الملك في ذلك الوقت ناصِب الديوان بسبب تأخير الساعي عن المدة المحدودة له، فلما دخل عليه سجَدَ بين يدَيْه، ثم أعطاه الكتابَ، فأخذه وسأل الساعي عن سببِ إبطائه، وعن أحوال الملك وردخان، فقَصَّ عليه القصةَ وحكى له جميعَ ما نظره بعينه وسمعه بأذنه، فاندهَشَ عقل الملك وقال للساعي: ويحك! ما هذه الأخبار التي تخبرني بها عن مثل هذا الملك؟ فأجابه الساعي قائلًا: أيها الملك العزيز، ها أنا بين يدَيْكَ فافتح الكتاب واقرأه يظهر لك الصدق من الكذب. فعند ذلك فتح الملك الكتابَ وقرأه ونظَرَ فيه صورةَ الغلام الذي كتبه، فأيقَنَ بزوال مُلْكِه وتحيَّرَ فيما يكون من أمره، ثم التفَتَ إلى وزرائه وعظماء دولته وأخبرهم بما جرى وقرأ عليهم الكتابَ، فارتاعوا لذلك وارتعبوا رعبًا عظيمًا، وصاروا يسكِّنون روعَ الملك بكلامٍ من ظاهر اللسان وقلوبهم تتمزَّقُ من الخفقان، ثم إن بديعًا الوزير الكبير قال: اعلم أيها الملك أن الذي يقوله إخوتي من الوزراء لا فائدةَ فيه، والرأي عندي أنك تكتب لهذا الملك كتابًا وتعتذر إليه فيه، وتقول له: «أنا مُحِبٌّ لك ولوالدك من قبلك، وما أرسلنا إليك الساعي بهذا الكتاب إلا على طريقِ الامتحان لكَ لننظر عزائمك وما عندك من الشجاعة والأمور العلمية والرموز الخفية، وما أنت منطوٍ عليه من الكمالات الكلية، ونسأل الله تعالى أن يبارِكَ لكَ في مملكتك، ويشيد حصونَ مدينتك، ويزيد في سلطانك حيثما كنتَ حافظًا لنفسك، فتتمُّ أمور رعيتك.» وأرْسِلْه له مع ساعٍ آخَر. فقال الملك: والله العظيم إنَّ في هذا لَعجبًا عظيمًا، كيف يكون هذا ملِكًا عظيمًا معتدًّا للحرب بعد قتله لعلماء مملكته وأصحاب رأيه ورؤساء جنده، وتكون مملكته عامرة بعد ذلك، ويخرج منها هذه القوة العظيمة؟! وأعجب من هذا أن صغار مكاتبها يردُّون عن ملكها مثل هذا الجواب! لكن أنا بسوء طمعي أشعلتُ هذه النار عليَّ وعلى أهل مملكتي، ولا أدري ما يُطفِئها إلا رأي وزيري هذا.
ثم إنه جهَّزَ هديةً ثمينةً وخَدَمًا وحشمًا كثيرة، وكتب كتابًا مضمونه: «بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، أيها الملك العزيز وردخان ولد الأخ العزيز جليعاد رحمه الله وأبقاك، لقد حضر لنا جوابُ كتابنا، فقرأناه وفهمنا ما فيه، فرأينا فيه ما يسرنا وهذا غاية طلبنا لك من الله، ونسأله أن يُعلِي شأنك ويشيد أركان مملكتك، وينصرك على أعدائك الذين يريدون بك السوء، واعلم أيها الملك أن أباك كان لي أخًا، وبيني وبينه عهود ومواثيق مدة حياته، وما كان يرى منَّا إلا خيرًا، وكنَّا نحن كذلك لا نرى منه إلا خيرًا، ولمَّا تُوفِّي وجلستَ أنت على كرسي مملكته، حصل عندنا غاية الفرح والسرور، ولمَّا بلغنا ما فعلتَ بوزرائك وأكابر دولتك، خشينا أن يصل خبر ذلك إلى ملِكٍ غيرنا فيطمع فيك، وكنَّا نظن أنك في غفلةٍ عن مصالحك وحفظ حصونك، مُهمِلًا لأمور مملكتك، فكاتَبْناك بما ننبِّهك به، فلما رأيناك قد رددتَ لنا مثل هذا الجواب، اطمأن قلبنا عليك، متَّعَكَ الله بمملكتك، وجعلك معانًا على شأنك والسلام.» ثم جهَّزَ له الهدية وأرسلها إليه مع مائة فارس. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.