فلما كانت الليلة ٩٢٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ملك الهند الأقصى لما جهَّزَ الهديةَ إلى الملك وردخان أرسَلَها له مع مائة فارسٍ، فساروا إلى أن أقبلوا على الملك وردخان وسلَّموا عليه، ثم أعطوه الكتابَ فقرأه وفهم معناه، ثم أنزل رئيسَ المائة فارس في محلٍّ يصلح له وأكرَمَه، وقبِلَ الهديةَ منه وشاع خبرها عند الناس، وفرح الملك بذلك فرحًا شديدًا، ثم أرسَلَ إلى الغلام ابن شماس وأحضره بين يدَيْه وأكرمه، وأرسل إلى رئيس المائة فارس، ثم طلب الكتاب الذي أحضَرَه من ملكه وأعطاه للغلام، ففتحه وقرأه فسُرَّ الملك بذلك سرورًا كبيرًا، وصار يعاتِبُ رئيسَ المائة فارسٍ وهو يقبِّل يدَيْه ويعتذر إليه ويدعو له بدوام البقاء وخلود النِّعَم عليه، فشكره الملك على ذلك وأكرمه إكرامًا زائدًا، وأعطاه وأعطى جميعَ مَن معه ما يليق بهم، وجهَّزَ معهم هدايا، وأمر الغلام أن يكتب ردَّ الجواب، فعند ذلك كتب الغلام الجوابَ وأحْسَنَ الخطابَ وأوجَزَ في باب الصلح، وذكر أدبَ الرسولِ ومَن معه من الفرسان، فلما تمَّمَ الكتابَ عرضه على الملك، فقال له الملك: اقرأه أيها الولد العزيز لكي نعرف ما كُتِب فيه. فعند ذلك قرأ الغلام بحضرة المائة فارس، فأعجب الملِكَ هو وكل مَن حضَرَ نظامُه ومعناه، ثم ختمه الملك وسلَّمَه إلى رئيس المائة فارس وصرفه، وأرسَلَ معه من عسكره طائفةً توصلهم إلى أطراف بلادهم.
هذا ما كان من أمر الملك والغلام، وأما ما كان من أمر رئيس المائة فارس، فإنه اندهَشَ عقله ممَّا رآه من أمر الغلام ومعرفته، وشكر الله تعالى على قضاء مصلحته بسرعةٍ وعلى قبول الصلح، ثم إنه سار إلى أن وصل إلى ملك أقصى الهند وقدَّمَ إليه الهدايا والتحف، وأوصل إليه العطايا وناوَلَه الكتابَ وأخبره بما نظر، ففرح الملك بذلك فرحًا شديدًا، وشكر الله تعالى وأكرَمَ رئيسَ المائة فارس، وشكَرَ همَّتَه على فعله، ورفع درجته، وصار من ذلك الوقت في أمنٍ وأمانٍ وطمأنينةٍ وزيادة انشراح.
هذا ما كان من أمر ملك أقصى الهند، وأما ما كان من أمر الملك وردخان، فإنه استقام مع الله ورجع عن طريقته الرديئة، وتاب إلى الله توبةً خالصةً عمَّا كان فيه، وترك النساء جملةً ومالَ بكليته إلى صلاحِ مملكته والنظر بخوف الله إلى رعيته، وجعل ولد شماس وزيرًا عوضًا عن والده، وصاحِبَ الرأي المقدَّم عنده في المملكة، وكاتمًا لسرِّه، وأمر بزينة مدينته سبعة أيام وكذلك بقية المدائن، ففرحت الرعية بذلك وزال الخوف والرعب عنهم، واستبشروا بالعدل والإنصاف، وابتهلوا بالدعاء للملك والوزير الذي أزالَ عنه وعنهم هذا الغمَّ، وبعد ذلك قال الملك للوزير: ما الرأي عندك في إتقان المملكة وإصلاح الرعية ورجوعها إلى ما كانت عليه أولًا من وجود الرؤساء والمدبرين؟ فعند ذلك أجابه الوزير قائلًا: أيها الملك العزيز الشأن، الرأي عندي أنك قبل كل شيء تبتدئ بقَطْع أمر المعاصي من قلبك، وتترك ما كنتَ فيه من اللهو والعسف والاشتغال بالنساء؛ لأنك إنْ رجعتَ إلى أصل المعاصي تكون الضلالةُ الثانية أشدَّ من الأولى. فقال الملك: وما هي أصل المعاصي التي ينبغي أن أقلع عنها؟ فأجابه ذلك الوزير الصغير السن الكبير العقل قائلًا: أيها الملك الكبير، اعلم أن أصل المعصية اتِّبَاع هوى النساء، والميل إليهن وقبول رأيهن وتدبيرهن؛ لأن محبتهن تغيِّر العقولَ الصافية وتفسد الطباع السليمة، والشاهد على قولي من دلائل واضحة لو تفكَّرْتَ فيها وتتَّبَعْتَ وقائعها بإمعانِ النظر، لَوجدتَ لك ناصحًا من نفسك واستغنيتَ عن قولي جملةً، فلا تشغل قلبَك بذِكْرهن واقطع من ذهنك رسمهن؛ لأن الله تعالى أمَرَ بعدم الإكثار منهن على يد نبيه موسى، حتى قال أحد الملوك الحكماء لولده: يا ولدي، إذا استقمتَ في الملك من بعدي، فلا تستكثر من النساء لئلا يضلَّ قلبك ويفسد رأيك بالجملة، فالاستكثار منهن يُفضِي إلى حبِّهن، وحبُّهن يُفضِي إلى فساد الرأي، والبرهان على ذلك ما جرى لسيدنا سليمان بن داود عليهما السلام، الذي خصَّه الله بالعلم والحكمة والمُلْك العظيم، ولم يُعْطِ أحدًا من الملوك التي تقدَّمت مثل ما أعطاه، فكانت النساء سببًا لهفوة والده، ومثل هذا كثير أيها الملك، وإنما ذكرتُ لك سليمان لتعرف أنه ليس لأحد أن يملك مثل ما ملك حتى أطاعه جميع ملوك الأرض. واعلم أيها الملك أن محبة النساء أصل كلِّ شر، وليس لإحداهن رأي، فينبغي للإنسان أن يقتصر منهن على قدر الضرورة، ولا يميل إليهن كلَّ الميل، فإن ذلك يُوقِعه في الفساد والهَلَكة، فإن أطعتَ قولي أيها الملك استقامَتْ لك جميع أمورك، وإن تركته ندمتَ حيث لا ينفعك الندم. فأجابه الملك قائلًا: لقد تركتُ ما كنتُ فيه من فرط الميل إليهن. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.