فلما كانت الليلة ٩٣١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الصبَّاغ صار كلما أتى له صاحب الشيء يطلع له بحيلةٍ من حيث كان ويحلف له، ولم يزل يَعِدُه ويخلف إذا جاءه، حتى يقلق الزبون ويقول له: كَمْ تقول لي في غدٍ! أعْطِني حاجتي فإني لا أريد صباغًا. فيقول: والله يا أخي أنا مستحٍ منك، ولكن أخبرك بالصحيح والله يؤذي كلَّ مَن يؤذي الناس في أمتعتهم. فيقول له: أخبرني ماذا حصل؟ فيقول: أمَّا حاجتك فإني صبغتُها صبغًا ليس له نظيرٌ، ونشرتُها على الحبل فسُرِقت ولا أدري مَن سرقها. فإن كان صاحب الحاجة من أهل الخير، يقل له: يعوِّض الله عليَّ. وإن كان من أهل الشر يستمرُّ معه في هتيكة وجرسة، ولا يحصل منه على شيء ولو اشتكاه إلى الحاكم، ولم يزل يفعل هذه الفِعال حتى شاع ذِكْره بين الناس، وصار الناس يحذِّر بعضهم بعضًا من أبي قير، ويضربون به الأمثال، وامتنعوا عنه جميعًا، وصار لا يقع معه إلا الجاهل بحاله، ومع ذلك لا بد له كلَّ يوم من جرسة وهتيكة من خلق الله، فحصل له كساد بهذا السبب، فصار يأتي إلى دكان جاره المزيِّن أبي صير ويقعد في داخلها قصاد المصبغة، فإنْ رأى أحدًا جاهلًا بحاله واقفًا على باب المصبغة ومعه شيء يريد صبغه، يَقُم من دكان المزين ويقول: ما لك يا هذا؟ فيقول له: خذ اصبغ لي هذا الشيء. فيقول له: أي لون تطلبه؟ لأنه مع هذه الخصال الذميمة كان يخرج من يده أن يصبغ سائر الألوان، ولكنه لم يصدق مع أحدٍ قطُّ، والشقاوة غالبة عليه، ثم يأخذ الحاجة منه ويقول له: هاتِ الكِراء لقدام وفي غدٍ تعالَ خذها. فيعطيه الأجرة ويروح، وبعد أن يتوجَّهَ صاحب الشيء إلى حال سبيله، يأخذ هو ذلك الشيء ويذهب إلى السوق فيبيعه ويشتري بثمنه اللحم والخضار والدخان والفاكهة وما يحتاج إليه، وإذا رأى أحدًا واقفًا على الدكان من الذين أعطوه حاجةً ليصبغها، فلا يظهر إليه ولا يُرِيه نفسه، ودام على هذه الحالة سنين.
فاتفق له في يومٍ من الأيام أنه أخذ حاجةً من رجل جبَّار، ثم باعها وصرف ثمنها، وصار صاحبها يجيء إليه في كلِّ يوم فلم يَرَه في الدكان؛ لأنه متى رأى أحدًا له عنده شيء يهرب منه في دكان المزين أبي صير، فلما لم يجده ذلك الجبَّار في دكانه وأعياه ذلك، ذهب إلى القاضي وأتاه برسولٍ من طرفه وسمَّرَ باب الدكان بحضرة جماعةٍ من المسلمين وختمه؛ لأنه لم يَرَ فيها غيرَ بعض مواجير مكسَّرة، ولم يجد فيها شيئًا يقوم مقام حاجته، ثم أخذ الرسول المفتاح وقال للجيران: قولوا له يجيء بحاجة هذا الرجل ويأتي ليأخذ مفتاح دكانه. ثم ذهب الرجل والرسول إلى حالهما، فقال أبو صير لأبي قير: ما داهيتك؟ فإنَّ كلَّ مَن جاء لك بحاجةٍ تعدمه إياها، أين راحت حاجة هذا الرجل الجبَّار؟ قال: يا جاري، إنها سُرِقت مني. قال أبو صير: عجائب، كلُّ مَن أعطاك حاجةً يسرقها منك لصٌّ، هل أنت مُعادٍ جميعَ اللصوص؟ ولكن أظن أنك تكذب، فأخبرني بقصتك. قال: يا جاري، ما أحد سرق مني شيئًا. فقال أبو صير: وما تفعل في متاع الناس؟ فقال له: كلُّ مَن أعطاني حاجةً أبيعها وأصرف ثمنها. فقال له: أبو صير أيحلُّ لكَ هذا من الله؟ قال له أبو قير: إنما أفعل هذا من الفقر؛ لأن صنعتي كاسدة، وأنا فقير وليس عندي شيء. ثم صار يذكر له الكسادَ وقلةَ السبب، وصار أبو صير يذكر له كسادَ صنعته أيضًا ويقول: أنا أسطى ليس لي نظير في هذه المدينة، ولكن لا يحلق عندي أحدٌ لكوني رجلًا فقيرًا، وكرهت هذه الصنعة يا أخي. فقال له أبو قير الصبَّاغ: وأنا أيضًا كرهت صنعتي من الكساد، ولكن يا أخي ما الداعي لإقامتنا في هذه البلدة؟ فأنا وأنت نسافر منها نتفرج في بلاد الناس، وصنعتنا في أيدينا رائجة في جميع البلاد، فإذا سافرنا نشم الهواءَ ونرتاح من هذا الهمِّ العظيم. وما زال أبو قير يحسِّن السفرَ لأبي صير حتى رغب في الارتحال، ثم إنهما اتفَقَا على السفر. وأدرك شهر زاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.