فلما كانت الليلة ٩٣٣
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أبا صير لما رجع إلى أبي قير رآه قد أكل كلَّ ما في الصحن ورماه فارغًا، فأخذه وأوصله إلى بعض أتباع القبطان ورجع إلى أبي قير ونام إلى الصباح، فلما كان ثاني الأيام صار أبو صير يحلق، وكلما جاء له شيء يعطيه لأبي قير، وأبو قير يأكل ويشرب، وهو قاعد لا يقوم إلا لإزالة الضرورة، وكلَّ ليلةٍ يأتي له بصحنٍ ملآن من عند القبطان، واستمرَّا على هذه الحالة عشرين يومًا، حتى رسَا الغليون على ميناء مدينة، فطلعَا من الغليون ودخلَا تلك المدينة، وأخذَا لهما حجرة في خانٍ وفرشها أبو صير، واشترى جميعَ ما يحتاجان إليه وجاء بلحمٍ وطبخه، وأبو قير نائم من حين دخل الحجرة، ولم يستيقظ حتى أيقَظَه أبو صير ووضع السفرة بين يده، فلما أفاق أكل وبعد ذلك قال له: لا تؤاخذني فإني دائخ. ثم نام، واستمرَّا على هذه الحالة أربعين يومًا، وكلَّ يوم يحمل المزيِّن العدةَ ويدور في المدينة، فيعمل بالذي فيه النصيب، ويرجع فيجد أبا قير نائمًا، فينبِّهه وحين ينتبه يُقبِل على الأكل بلهفةٍ، فيأكل أكل مَن لا يشبع ولا يقنع، ثم ينام، ولم يزل كذلك مدة أربعين يومًا أخرى، وكلما يقول له أبو صير: أجلس أرتاح، واخرج تفسَّحْ في المدينة، فإنها فرجة وبهجة وليس لها نظير في المدائن. يقول له أبو قير الصبَّاغ: لا تؤاخذني فإني دائخ. فلا يرضى أبو صير المزيِّن أن يكدِّرَ خاطِرَه ولا يُسمِعه كلمةً تؤذيه، وفي اليوم الحادي والأربعين مرض المزيِّن ولم يقدر أن يسرح، فسخَّرَ بوَّاب الخان، فقضى لهما حاجتهما وأتى لهما بما يأكلان وما يشربان، كل ذلك وأبو قير يأكل وينام، وما زال المزيِّن يسخِّر بوَّاب الخان في قضاء حاجته مدة أربعة أيام، وبعد ذلك اشتدَّ المرض على المزيِّن حتى غاب عن الوجود من شدة مرضه، وأما أبو قير فإنه أحرَقَه الجوع، فقام وفتَّشَ في ثياب أبي صير، فرأى معه مقدارًا من الدراهم، فأخذه وقفل بابَ الحجرة على أبي صير ومضى ولم يُعلِم أحدًا، وكان البوَّاب في السوق فلم يَرَه حين خروجه.
ثم إن أبا قير عمد إلى السوق وكسا نفسه ثيابًا نفيسة، وصار يدور في المدينة ويتفرج، فرآها مدينةً ما وجد مثلها في المدائن، وجميع ملبوسها أبيض وأزرق من غير زيادة، فأتى إلى صبَّاغ فرأى جميع ما في دكانه أزرق، فأخرج له محرمة وقال له: يا معلم، خذ هذه المحرمة وأصبغها، وخذ أجرتك. فقال له: إن أجرة صبغ هذه عشرون درهمًا. فقال له: نحن نصبغ هذه في بلادنا بدرهمين. فقال: رُحِ اصبغها في بلادكم، وأمَّا أنا فلا أصبغها إلا بعشرين درهمًا لا تنقص عن هذا القدر شيئًا. فقال له أبو قير: أي لون تريد صبغها؟ قال له الصباغ: أصبغها زرقاء. قال له أبو قير: أنا مرادي أن تصبغها لي حمراء. قال له: لا أدري صباغ الأحمر. قال: خضراء. قال: لا أدري صباغ الأخضر. قال: صفراء. قال له: لا أدري صباغ الأصفر. وصار أبو قير يُعدِّد له الألوانَ لونًا بعد لون، فقال له الصباغ: نحن في بلادنا أربعون معلمًا لا يزيدون واحدًا ولا ينقصون واحدًا، وإذا مات منَّا واحد نعلِّم ولده، وإن لم يخلِّف ولدًا نبقى ناقصين واحدًا، والذي له ولدان نعلِّم واحدًا منهما، فإن مات علَّمنا أخاه، وصنعتنا هذه مضبوطة ولا نعرف أن نصبغ غير الأزرق من غير زيادة. فقال له أبو قير الصباغ: اعلم أني أنا صبَّاغ، وأعرف أن أصبغ سائرَ الألوان، ومرادي أن تخدمني عندك بالأجرة، وأنا أعلِّمك جميعَ الألوان لأجل أن تفتخر بها على كل طائفة الصبَّاغين. فقال له: نحن لا نقبل غريبًا يدخل في صنعتنا أبدًا. فقال له: وإذا فتحتُ لي مصبغةً وحدي؟ فقال له: لا يمكنك ذلك أبدًا. فتركه وتوجَّهَ إلى الثاني، فقال له كما قال له الأول، ولم يَزَلْ ينتقل من صبَّاغ إلى صبَّاغ حتى طاف على الأربعين معلمًا، فلم يقبلوه لا أجيرًا ولا معلِّمًا، فتوجَّهَ إلى شيخ الصبَّاغين وأخبره، فقال له: إننا لا نقبل غريبًا يدخل في صنعتنا. فحصل عند أبي قير غيظٌ عظيمٌ، وطلع يشكو إلى ملك تلك المدينة وقال له: يا ملك الزمان، أنا غريب وصنعتي الصباغة، وجرى لي مع الصباغين ما هو كذا وكذا، وأنا أصبغ الأحمرَ ألوانًا مختلفةً كورديٍّ وعنَّابيٍّ، والأخضر ألوانًا مختلفة كزرعي وفستقي وجناح الدرة، والأسود ألوانًا مختلفة كفحمي وكحلي، والأصفر ألوانًا مختلفة كنارنجي … وصار يذكر له سائر الألوان، ثم قال: يا ملك الزمان، كلُّ الصبَّاغين الذين في مدينتك لا يخرج من أيديهم أن يصبغوا شيئًا من هذه الألوان، ولا يعرفون إلا صبغ الأزرق، ولم يقبلوني أن أكون عندهم معلمًا ولا أجيرًا. فقال له الملك: قد صدقتَ في ذلك، ولكن أنا أفتح لك مصبغةً وأعطيك رأسَ مال وما عليك منهم، وكلُّ مَن تعرَّضَ لك شنقتُه على باب دكانه. ثم أمر البنَّائين وقال لهم: امضوا مع هذا المعلِّم وشقُّوا أنتم وإياه في المدينة، وأي مكان أعجبه فأَخرِجوا صاحبه منه، سواء كان دكانًا أو خانًا أو غير ذلك، وابنوا له مصبغة على مراده، ومهما أمَرَكم به فافعلوه ولا تخالفوه فيما يقول. ثم إن الملك ألْبَسَه بدلةً مليحةً، وأعطاه ألفَ دينار وقال له: اصرفها على نفسك حتى تتمَّ البناية. وأعطاه مملوكَيْن من أجل الخدمة، وحصانًا بعدَّةٍ مزركشة، فلبس البدلةَ وركب الحصانَ وصار كأنه أمير، وأخلى له الملك بيتًا وأمر بفرشه، ففرشوه له. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.