فلما كانت الليلة ٩٣٤
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك أخلى بيتًا لأبي قير وأمَرَ بفرشه، ففرشوه له وسكن فيه وركب في ثاني يومٍ وشقَّ في المدينة والمهندسون قدامه، ولم يزل يتأمَّل حتى أعجَبَه مكان فقال: هذا المكان طيِّبٌ. فأخْرَجُوا صاحبه منه وأحضروه إلى الملك، فأعطاه ثمن مكانه زيادةً على ما يرضيه، ودارت فيه البناية وصار أبو قير يقول للبنَّائين: ابنوا كذا وكذا، وافعلوا كذا وكذا. حتى بنوا له مصبغةً ليس لها نظيرٌ، ثم حضر إلى الملك وأخبره بأن المصبغة تمَّ بناؤها، وإنما يحتاج لثمنٍ من أجل إدارتها، فقال له الملك: خذ هذه الأربعة آلاف دينار واجعلها رأسَ مالٍ، وأَرِني ثمرةَ مصبغتك. فأخذها ومضى إلى السوق، فرأى النيلة كثيرة، وليس لها ثمن، فاشترى جميعَ ما يحتاج إليه من حوائج الصباغة، ثم إن الملك أرسَلَ إليه خمسمائة شقة من القماش، فدوَّرَ الصبغ فيها وصبغها من سائر الألوان، ثم نشرها قدام باب المصبغة، فلما مرَّ الناس عليها رأوا شيئًا عجيبًا عمرهم ما رأوا مثله، فازدحمت الخلائق على باب المصبغة، وصاروا يتفرَّجون ويسألونه ويقولون له: يا معلم، ما اسم هذه الألوان؟ فيقول لهم: هذا أحمر، وهذا أصفر، وهذا أخضر … ويذكر لهم أسامي الألوان، فصاروا يأتونه بشيءٍ من القماش ويقولون له: اصبغ لنا مثل هذا وهذا، وخذ ما تطلب. ولما فرغ من صبغ قماش الملك، أخذه وطلع به إلى الديوان، فلما رأى الملك ذلك الصبغ فرح به وأنعَمَ عليه إنعامًا زائدًا، وصار جميعُ العسكر يأتون إليه بالقماش ويقولون له: اصبغ لنا هكذا. فيصبغ لهم على أغراضهم ويرمون عليه بالذهب والفضة، ثم إنه شاع ذكره وسُمِّيت مصبغته مصبغة السلطان، ودخل عليه الخيرُ من كل باب، وجميع الصبَّاغين لم يقدر أحدٌ منهم أن يتكلَّمَ معه، وإنما كانوا يأتونه ويقبِّلون يدَيْه ويعتذرون إليه مما سبق منهم في حقِّه، ويعرضون أنفسهم عليه ويقولون له: اجعلنا خَدَمًا عندك. فلم يرْضَ أن يقبل واحدًا منهم، وصار عنده عبيدٌ وجوارٍ، وجمع مالًا كثيرًا.
هذا ما كان من أمر أبي قير، وأما ما كان من أمر أبي صير، فإنه لما قفل عليه أبو قير باب الحجرة بعد أن أخذ دراهمه، وراح وخلاه وهو مريض غائب عن الوجود، فصار مرمِيًّا في تلك الحجرة والباب مقفول عليه، واستمرَّ كذلك ثلاثة أيام، فانتبَهَ بوَّاب الخان إلى باب الحجرة، فرآه مقفولًا ولم يَرَ أحدًا من هذين الاثنين إلى المغرب، ولم يعلم لهما خبرًا، فقال في نفسه: لعلهما سافَرَا ولم يدفعَا أجرةَ الحجرة، أو ماتَا أو ما خبرهما؟ ثم إنه أتى إلى باب الحجرة فرآه مقفولًا، وسمع أنينَ المزيِّن في داخلها، ورأى المفتاح في الضبة، ففتح الباب ودخل، فرأى المزيِّن يَئِنُّ، فقال له: لا بأس عليك، أين رفيقك؟ فقال له: والله إني ما أفقتُ من مرضي إلا في هذا اليوم، وصرتُ أنادي وما أحد يردُّ عليَّ جوابًا، بالله عليك يا أخي أن تنظر الكيس تحت رأسي، وتأخذ منه خمسةَ أنصاف وتشتري لي بها شيئًا أقتاتُ به، فإني في غاية الجوع. فمدَّ يده وأخذ الكيس فرآه فارغًا، فقال للمزيِّن: إن الكيس فارغ ما فيه شيء. فعرف أبو صير المزيِّن أن أبا قير أخذ ما فيه وهرب، فقال له: أَمَا رأيتَ رفيقي؟ فقال له: من مدة ثلاثة أيام ما رأيتُه، وما كنتُ أظن إلا أنك سافرتَ أنت وإياه. فقال له المزين: ما سافرنا، وإنما طمع في فلوسي فأخذها وهرب حين رآني مريضًا. ثم إنه بكى وانتحب، فقال له بواب الخان: لا بأس عليك، وهو يَلقَى فعله من الله.
ثم إن بوَّاب الخان راح وطبخ له شوربةً، وغرف له صحنًا وأعطاه إياه، ولم يزل يتعهَّده مدةَ شهرين وهو يكلفه من كيسه حتى عرق وشفاه الله من المرض الذي كان به، ثم قام على أقدامه وقال لبواب الخان: إن أقدرني الله تعالى جازيتُكَ على ما فعلتَ من الخير، ولكن لا يجازي إلا الله من فضله. فقال له بواب الخان: الحمد لله على العافية، أنا ما فعلتُ معك ذلك إلا ابتغاءَ وجه الله الكريم. ثم إن المزيِّنَ خرج من الخان وشقَّ في الأسواق، فأتت به المقادير إلى السوق الذي فيه مصبغةُ أبي قير، فرأى الأقمشة ملوَّنة بالصباغ منشورة في باب المصبغة، والخلائق مزدحمة يتفرجون عليها، فسأل رجلًا من أهل المدينة وقال له: ما هذا المكان؟ وما لي أرى الناسَ مزدحمين؟ فقال له المسئول: إن هذه مصبغة السلطان التي أنشأها لرجلٍ غريب اسمه أبو قير، وكلما صبغ ثوبًا نجتمع عليه ونتفرَّج على صبغه؛ لأن بلادنا ما فيها صبَّاغون يعرفون صبغ هذه الألوان، وجرى له مع الصبَّاغين الذين في البلد ما جرى، وأخبره بما جرى بين أبي قير وبين الصبَّاغين، وأنه شكاهم إلى السلطان، فأخذ بيده وبنى له هذه المصبغة وأعطاه كذا وكذا، وأخبره بكل ما جرى، ففرح أبو صير وقال في نفسه: الحمد لله الذي فتح عليه وصار معلمًا، والرجل معذور لعله التهى عنك بالصنعة ونسيك، ولكن أنت عملت معه معروفًا وأكرمته وهو بطَّال، فمتى رآك فَرِحَ بك وأكرمك في نظيرِ ما أكرمتَه. ثم إنه تقدَّمَ إلى جهة باب المصبغة، فرأى أبا قير جالسًا على مرتبة عالية فوق مصطبة في باب المصبغة، وعليه بدلة من ملابس الملوك، وقدامه أربعة عبيد وأربعة مماليك بيض لابسين أفخر الملابس، ورأى الصنائعية عشرة عبيد واقفين يشتغلون؛ لأنه حين اشتراهم علَّمهم صنعة الصباغة، وهو قاعد بين المخدات كأنه وزير أعظم أو ملك أفخم، لا يعمل شيئًا بيده، وإنما يقول لهم افعلوا كذا وكذا، فوقف أبو صير قدامه وهو يظن أنه إذا رآه يفرح به ويسلِّم عليه ويكرمه ويأخذ بخاطره، فلما وقعَتِ العينُ في العين، قال له أبو قير: يا خبيث، كم مرة وأنا أقول لك لا تقف في باب هذا الدولاب؟ هل مرادك أن تفضحني مع الناس يا حرامي؟ أمسكِوه. فجرت خلفه العبيد وقبضوا عليه، وقام أبو قير على حيله وأخذ عصًا وقال: ارموه. فرموه فضربه على ظهره مائة، ثم قلبوه فضربه على بطنه مائة وقال له: يا خبيث يا خائن، إنْ نظرتُكَ بعد هذا اليوم واقفًا على باب هذه المصبغة، أرسلتُكَ إلى الملك في الحال فيسلِّمك إلى الوالي ليرمي عنقك، امشِ لا بارَكَ الله لك. فذهب من عنده مكسورَ الخاطر بسبب ما حصل له من الضرب والترذيل، فقال الحاضرون لأبي قير الصبَّاغ: أي شيء عمل هذا الرجل؟ فقال لهم: إنه حرامي يسرق أقمشةَ الناس. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.