فلما كانت الليلة ٩٣٥
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أبا قير ضرب أبا صير وطرده وقال للناس: إن هذا حرامي يسرق أقمشةَ الناس، فإنه سرق مني كم مرة من القماش، وأنا أقول في نفسي سامَحَه الله فإنه رجل فقير، ولم أرْضَ أن أشوِّشَ عليه، وأعطي الناس ثمنَ أقمشتهم وأنهاه بلطفٍ فلم ينتهِ، فإن رجع مرةً غير هذه المرة أرسلتُه إلى الملك، فيقتله ويريح الناس من أذاه، فصار الناس يشتمونه بعد ذهابه. هذا ما كان من أمر أبي قير، وأما ما كان من أمر أبي صير، فإنه رجع إلى الخان وجلس يتفكَّر فيما فعل به أبو قير، ولم يزل جالسًا حتى برد عليه الضرب، ثم خرج وشقَّ في أسواق المدينة، فخطر بباله أن يدخل الحمَّام، فسأل رجلًا من أهل المدينة وقال له: يا أخي، من أين طريق الحمَّام؟ فقال: وما يكون الحمَّام؟ فقال له: موضع تغتسل فيه الناس ويزيلون ما عليهم من الأوساخ، وهو من أطيب طيبات الدنيا. فقال له: عليك بالبحر. قال: أنا مرادي الحمَّام. قال له: نحن لم نعرف الحمَّام، كيف يكون؟ فإننا كلنا نروح إلى البحر حتى الملك إذا أراد أن يغتسل فإنه يروح إلى البحر. فلما علم أبو صير أن المدينة ليس فيها حمَّامًا وأهلها لا يعرفون الحمام ولا كيفيته، مضى إلى ديوان الملك ودخل عليه وقبَّلَ الأرض بين يدَيْه ودعَا له وقال له: أنا رجل غريب البلاد وصنعتي حمَّامي، فدخلتُ مدينتك وأردتُ الذهاب إلى الحمَّام، فما رأيتُ فيها ولا حمَّامًا واحدًا، والمدينة التي تكون بهذه الصفة الجميلة كيف تكون من غير حمَّام؟ مع أنه من أحسن نعيم الدنيا. فقال له الملك: أي شيء يكون الحمَّام؟ فصار يحكي له أوصاف الحمَّام وقال له: لا تكون مدينتك كاملةً إلا إذا كان بها حمَّام. فقال له الملك: مرحبًا بك. وألبسه بدلهً ليس لها نظير، وأعطاه حصانًا وعبدين، ثم أنعَمَ عليه بأربع جوارٍ ومملوكين، وهيَّأ له دارًا مفروشة وأكرمه أكثر من الصبَّاغ، وأرسل معه البنَّائين وقال لهم: الموضع الذي يعجبه ابنوا له فيه حمَّامًا. فأخذهم وشقَّ بهم في وسط المدينة حتى أعجبه مكان، فأشار لهم عليه فدوَّروا فيه البناية، وصار يرشدهم إلى كيفيته حتى بنوا له حمَّامًا ليس له نظير، ثم أمرهم بنقشه فنقشوه نقشًا عجيبًا حتى صار بهجةً للناظرين، ثم طلع إلى الملك وأخبره بفراغ بناء الحمام ونقشه، وقال له: إنه ليس ناقصًا غير الفرش. فأعطاه الملك عشرة آلاف دينار، فأخذها وفرش الحمَّامَ وصَفَّ فيه الفوط على الحبال، وصار كلُّ مَن مرَّ على باب الحمَّام يشخص له ويحتار فكره في نقشه، وازدحمت الخلائق على ذلك الشيء الذي ما رأوا مثله في عمرهم، وصاروا يتفرجون عليه ويقولون: أي شيء هذا؟ فيقول لهم أبو صير: هذا حمَّام. فيتعجبون منه، ثم إنه سخَّن الماء ودوَّر الحمَّام وعمل سلسبيلًا في الفسقية يأخذ عقلَ كلِّ مَن رآه من أهل المدينة، وطلب من الملك عشرة مماليك دون البلوغ، فأعطاه عشرة مماليك مثل الأقمار، فصار يكيسهم ويقول لهم: افعلوا مع الزبائن هكذا. ثم أطلق البخورَ وأرسَلَ مناديًا ينادي في المدينة ويقول: يا خلق الله، عليكم بالحمَّام، فإنه يُسمَّى حمَّام السلطان. فأقبلت عليه الخلائق وجعل يأمر المماليك أن يغسلوا أجساد الناس، وصار الناس ينزلون المغطس ويطلعون، وبعد طلوعهم يجلسون في الليوان والمماليك تكبِّسهم مثل ما علَّمهم أبو صير، واستمرَّ الناس يدخلون الحمام ويقضون حاجتهم منه، ثم يخرجون بلا أجرةٍ مدةَ ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع عزم الملك على الذهاب إلى الحمَّام، فركب هو وأكابر دولته وتوجَّهوا إلى الحمَّام، فقلع ودخل، فدخل أبو صير وكبَّسَ الملك، وأخرَجَ من جسده الوسخ مثل الفتائل، وصار يُرِيه له، ففرح الملك وصار لوضْعِ يده على بدنه صوتٌ من النعومة والنظافة، وبعد أن غسل جسده مزَجَ له ماءَ الورد بماء المغطس، فنزل الملك في المغطس، ثم خرج وجسده قد ترطَّبَ فحصل له نشاطٌ عمره ما رآه، ثم بعد ذلك أجلَسَه في الليوان وصار المماليك يكبِّسونه والمباخر تفوح بالعود الند، فقال الملك: يا معلم، أهذا هو الحمَّام؟ قال: نعم. فقال له: وحياة رأسي إن مدينتي ما صارت مدينة إلا بهذا الحمَّام. ثم قال له: أنت تأخذ على كل رأسٍ أي شيء أجرة؟ قال أبو صير: الذي تأمر لي به آخذه. فأمر له بألف دينار، وقال له: كلَّ مَن اغتسل عندك خذ منه ألف دينار. فقال: العفو يا ملك الزمان، إن الناس ليسوا سواء، بل فيهم الغني وفيهم الفقير، وإذا أخذتُ من كل واحد ألفَ دينار يبطل الحمَّام، فإن الفقير لا يقدر على الألف دينار. قال الملك: وكيف تفعل في الأجرة؟ قال: اجعل الأجرة بالمروءة؛ فكلُّ مَن يقدر على شيء وسمحَتْ به نفسه يعطيه، فنأخذ من كلِّ إنسان على قدر حاله، فإن الأمر إذا كان كذلك تأتي إلينا الخلائق، والذي يكون غنيًّا يعطي على قدر مقامه، والذي يكون فقيرًا يعطي على قدر ما تسمح به نفسه، فإذا كان الأمر كذلك يدور الحمَّام ويبقى له شأن عظيم، وأما الألف دينار فإنها عطية الملك، ولا يقدر عليها كل أحدٍ. فصدَّقَ عليه أكابر الدولة وقالوا: هذا هو الحق يا ملك الزمان، أتحسب أن الناس كلهم مثلك أيها الملك العزيز؟ قال الملك: إن كلامكم صحيح، ولكن هذا رجل غريب فقير، وإكرامه واجب علينا، فإنه عمل في مدينتنا هذا الحمَّام الذي عمرنا ما رأينا مثله، ولا تزيَّنَتْ مدينتنا وصار لها شأن إلا به، فإذا أكرمناه بزيادة الأجرة ما هو كثير. فقالوا: إذا كنتَ تكرمه فأكرمه من مالك، وإكرام الفقير من الملك بقلة أجرة الحمَّام لأجل أن تدعو لك الرعية، وأما الألف دينار فنحن أكابر دولتك ولا تسمح أنفسنا بإعطائها، فكيف تسمح بذلك نفوس الفقراء؟ فقال الملك: يا أكابر دولتي، كلٌّ منكم يعطيه في هذه المرة مائة دينار ومملوكًا وجارية وعبدًا. فقالوا: نعم نعطيه ذلك، ولكن بعد هذا اليوم كلُّ مَن دخل لا يعطيه إلا ما تسمح به نفسه. فقال: لا بأس بذلك. فجعل الأكابر يعطيه كلُّ واحدٍ منهم مائة دينار وجارية ومملوكًا وعبدًا، وكان عدد الأكابر الذين اغتسلوا مع الملك في هذا اليوم أربعمائة نفس. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.