فلما كانت الليلة ٩٤١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخباز قال للصياد: خذ ما تحتاج إليه وأنا أصبر عليك حتى يأتيك الخير، وبعد ذلك هات بما أستحقه عندك سمكًا. فقال له: آجرك الله تعالى وجزاك عني كل خير. ثم أخذ العيشَ والعشرة أنصاف فضة وراح مسرورًا، واشترى له ما تيسَّرَ ودخل على زوجته، فرآها قاعدة تأخذ بخاطر الأولاد وهم يبكون من الجوع وتقول لهم: في هذا الوقت يأتي أبوكم بما تأكلونه. فلما دخل عليهم حطَّ لهم العيش، فأكلوا وأخبر زوجته بما حصل له، فقالت له: الله كريم. وفي ثاني يوم حمل شبكته وخرج من داره وهو يقول: أسألك يا رب أن ترزقني في هذا اليوم بما يبيِّض وجهي مع الخباز. فلما وصل إلى البحر صار يطرح الشبكة ويجذبها، فلم يخرج فيها سمك، ولم يزل كذلك إلى آخِر النهار ولم يحصل شيء، فرجع وهو في غمٍّ عظيمٍ، وكان طريق بيته على فرن الخباز، فقال في نفسه: من أين أروح إلى داري؟ ولكنْ أُسرِع خطاي حتى لا يراني الخباز. فلما وصل إلى فرن الخباز رأى زحمة، فأسرَعَ في المشي من حيائه من الخباز حتى لا يراه، وإذا بالخباز وقع بصره عليه فصاح وقال: يا صياد، تعال خذ عيشك ومصروفك، فإنك نسيت. قال: لا والله ما نسيت، وإنما استحيتُ منك، فإني لم أصطد سمكًا في هذا اليوم. فقال له: لا تستحِ، أَمَا قلتُ لك على مهلك حتى يأتيك الخير؟ ثم أعطاه العيش والعشرة أنصاف وراح إلى زوجته وأخبرها بالخبر، فقالت له: الله كريم، إن شاء الله يأتيك الخير وتوفيه حقَّه. ولم يزل على هذه الحالة مدة أربعين يومًا، وهو في كل يوم يروح إلى البحر من طلوع الشمس إلى غروبها ويرجع بلا سمك، ويأخذ عيشًا ومصروفًا من الخباز، ولم يذكر له السمكَ يومًا من الأيام ولم يهمله مثل الناس، بل يعطيه العشرة أنصاف والعيش، وكلما يقول له: يا أخي حاسبني. يقول له: رُحْ ما هذا وقت الحساب حتى يأتيك الخير فأحاسبك. فيدعو له ويذهب من عنده شاكرًا له، وفي اليوم الحادي والأربعين قال لامرأته: مرادي أن أقطع هذه الشبكة وأرتاح من هذه المعيشة. فقالت له: لأي شيء؟ قال لها: كأنَّ رزقي انقطَعَ من البحر، فإلى متى هذا الحال؟ والله إني ذبت حياءً من الخباز، فأنا ما بقيتُ أروح إلى البحر حتى لا أجوز على فرنه، فإنه ليس لي طريق إلا على فرنه، وكلما جزتُ عليه يناديني ويعطيني العيشَ والعشرة أنصاف، وإلى متى وأنا أتداين منه؟ قالت له: الحمد لله تعالى الذي عطف قلبه عليك فيعطيك القوت، وأي شيء تكره من هذا؟ قال: بقي له قدر عظيم من الدراهم، ولا بد أنه يطلب حقَّه. قالت له زوجته: هل آذاك بكلامٍ؟ قال: لا، ولم يرضَ أن يحاسبني ويقول لي: حتى يأتيك الخير. قالت: فإذا طالَبَكَ قُلْ له: حتى يأتي الخير الذي نرتجيه أنا وأنت. فقال لها: متى يجيء الخير الذي نرتجيه؟ قالت له: الله كريم. قال: صدقتِ.
ثم حمل شبكته وتوجَّهَ إلى البحر وهو يقول: يا رب ارزقني ولو بسمكة واحدة حتى أهديها إلى الخباز. ثم إنه رمى الشبكة في البحر ثم سحبها فوجدها ثقيلة، فما زال يعالج فيها حتى تعب تعبًا شديدًا، فلما أخرَجَها رأى فيها حمارًا ميتًا منفوخًا ورائحته كريهة، فسئمت نفسه، ثم خلَّصه من الشبكة وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قد عجزتُ وأنا أقول لهذه المرأة ما بقي لي رزق في البحر، دعيني أترك هذه الصنعة، وهي تقول لي الله كريم سيأتيك الخير، فهل هذا الحمار الميت هو الخير؟ ثم إنه حصل له غمٌّ شديدٌ، وتوجَّهَ إلى مكانٍ آخَر ليبعد عن رائحة الحمار، وأخذ الشبكة ورماها وصبر عليها ساعة زمانية، ثم جذبها فرآها ثقيلة، فلم يزل يعالج فيها حتى خرج الدم من كفَّيْه، فلما أخرج الشبكة رأى فيها آدميًّا، فظنَّ أنه عفريت من عفاريت السيد سليمان الذين كان يحبسهم في قماقم النحاس ويرميهم في البحر، فلما انكسَرَ القمقم من طول السنين خرج منه ذلك العفريت وطلع في الشبكة، فهرب منه وصار يقول: الأمان الأمان يا عفريت سليمان. فصاح عليه الآدمي من داخل الشبكة وقال: تعال يا صياد لا تهرب مني، فإني آدمي مثلك، فخلِّصني لتنال أجري. فلما سمع كلامه الصياد اطمأنَّ قلبه وجاءه، وقال له: ما أنت عفريت من الجن؟ قال: لا، إنما أنا إنسيٌّ مؤمن بالله ورسوله. قال له: ومَن رماك في البحر؟ قال له: أنا من أولاد البحر، كنت دائرًا فرميْتَ عليَّ الشبكةَ، ونحن أقوام مطيعون لأحكام الله، ونشفق على خلق الله تعالى، ولولا أني أخاف وأخشى أن أكون من العاصين لَقطعتُ شبكتك، ولكن رضيتُ بما قدَّرَ الله عليَّ، وأنت إذا خلَّصْتَني تصير مالكًا لي، وأنا أصير أسيرك، فهل لك أن تعتقني ابتغاءَ وجهِ الله تعالى، وتعاهدني وتبقى صاحبي؟ أجيئك كل يوم في هذا المكان وأنت تأتيني وتجيء لي معك بهدية من ثمار البر، فإن عندكم عنبًا وتينًا وبطيخًا وخوخًا ورمَّانًا وغير ذلك، وكل شيء تجيء به إليَّ مقبول منك، ونحن عندنا مرجان ولؤلؤ وزبرجد وزمرد وياقوت وجواهر، فأنا أملأ لك المشنة التي تجيء لي فيها بالفاكهة معادن من جواهر البحر، فما تقول يا أخي في هذا الكلام؟ قال له الصياد: الفاتحة بيني وبينك على هذا الكلام. فقرأ كلٌّ منهما الفاتحةَ وخلَّصه من الشبكة، ثم قال له الصياد: ما اسمك؟ قال: اسمي عبد الله البحري، فإذا أتيتَ إلى هذا المكان ولم ترني فنادِ وقُلْ: أين أنت يا عبد الله يا بحري؟ فأكون عندك في الحال. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.