فلما كانت الليلة ٨٨٠
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن وزير ملك إفرنجة لما سافَرَ بهم المركب وفيه مريم
الزنارية، صارت تنظر إلى ناحية إسكندرية حتى غابَتْ عن عينها، فبكَتْ وانتحبَتْ وسكبَتِ
العَبَرات، وأنشدت هذه الأبيات:
أَيَا مَنْزِلَ الْأَحْبَابِ هَلْ لَكَ عَوْدَةٌ
إِلَيْنَا وَمَا عِلْمِي بِمَا اللهُ صَانِعُ
فَسَارَتْ بِنَا سُفُنُ الْفِرَاقِ وَأَسْرَعَتْ
وَطَرْفِي قَرِيحٌ قَدْ مَحَتْهُ الْمَدَامِعُ
لِفُرْقَةِ خِلٍّ كَانَ غَايَةَ مَقْصِدِي
بِهِ يُشْتَفَى سَقْمِي وَتُمْحَى الْمَوَاجِعُ
أَلَا يَا إِلَهِي كُنْ عَلَيْهِ خَلِيفَتِي
فَعِنْدَكَ يَوْمًا لَا تَضِيعُ الْوَدَائِعُ
ولم تزل مريم كلما تذكَّرتْه تبكي وتنوح، فأقبَلَ عليها البطارقة يلاطفونها، فلم تقبل
منهم كلامًا، بل شغلها داعي الوَجْدِ والغرام، ثم إنها بكَتْ وأنَّتْ واشتكَتْ، وأنشدت
هذه
الأبيات:
لِسَانُ الْهَوَى فِي مُهْجَتِي لَكَ نَاطِقُ
يُخَبِّرُ عَنِّي أَنَّنِي لَكَ عَاشِقُ
وَلِي كَبِدٌ جَمْرُ الْهَوَى قَدْ أَذَابَهَا
وَقَلْبِي جَرِيحٌ مِنْ فِرَاقِكَ خَافِقُ
وَكَمْ أَكْتُمُ الْحُبَّ الَّذِي قَدْ أَذَابَنِي
فَجَفْنِي قَرِيحٌ وَالدُّمُوعُ سَوَابِقُ
ولم تَزَلْ مريم على هذه الحالة لا يقر لها قرار، ولا يطاوعها اصطبار مدةَ سفَرِها.
هذا
ما كان من أمرها هي والوزير الأعور، وأما ما كان من أمر نور الدين علي المصري ابن التاجر
تاج الدين، فإنه بعد نزول مريم المركب وسفرها، ضاقت عليه الدنيا وصار لا يقرُّ له قرار،
ولا
يطاوعه اصطبار، فتوجَّهَ إلى القاعة التي كان مُقِيمًا بها هو ومريم، فرآها في وجهه سوداء
مُظلِمة، ورأى العدَّةَ التي كانت تشتغل عليها الزنانير، وثيابَها التي كانت على جسدها،
فضَمَّها إلى صدره وبكى، وفاضت من جفْنِه العَبَرات، وأنشد هذه الأبيات:
تُرَى هَلْ يَعُودُ الشَّمْلُ بَعْدَ تَشَتُّتِي
وَبَعْدَ تَوَالِي حَسْرَتِي وَتَلَفُّتِي
فَهَيْهَاتِ مَا قَدْ كَانَ لَيْسَ بِرَاجِعٍ
فَيَا هَلْ تُرَى أَحْظَى بِوَصْلِ حَبِيبَتِي
وَيَا هَلْ تُرَى قَدْ يَجْمَعُ اللهُ شَمْلَنَا
وَيَذْكُرُ أَحْبَابِي عُهُودَ مَوَدَّتِي
وَيَحْفَظُ وُدِّي مَنْ بِجَهْلِي أَضَعْتُهُ
وَيَرْعَى عُهُودِي ثُمَّ سَالِفَ صُحْبَتِي
فَمَا أَنَا إِلَّا مَيِّتٌ بَعْدَ بُعْدِهِمْ
وَهَلْ تَرْتَضِي الْأَحْبَابُ يَوْمًا مَنِيَّتِي
فَيَا أَسَفِي إِنْ كَانَ يُجْدِي تَأَسُّفِي
لَقَدْ ذُبْتُ وَجْدًا مِنْ تَزَايُدِ حَسْرَتِي
وَضَاعَ زَمَانٌ كَانَ فِيهِ تَوَاصُلِي
فَيَا هَلْ تُرَى دَهْرِي يَجُودُ بِمُنْيَتِي
فَيَا قَلْبُ زِدْ وَجْدًا وَيَا عَيْنُ أَهْمِلِي
دُمُوعًا وَلَا تُبْقِي الدُّمُوعَ بِمُقْلَتِي
وَيَا بُعْدَ أَحْبَابِي وَفَقْدَ تَصَبُّرِي
وَقَدْ قَلَّ أَنْصَارِي وَزَادَتْ بَلِيَّتِي
سَأَلْتُ إِلَهِي أَنْ يُتَمِّمَ فَرْحَتِي
بِعَوْدِ حَبِيبِي وَالْوِصَالِ كَعَادَتِي
ثم إن نور الدين بكى بكاءً شديدًا ما عليه من مزيد، ونظر إلى زوايا القاعة وأنشد هذين
البيتين:
أَرَى آثَارَهُمْ فَأَذُوبُ شَوْقًا
وَأُجْرِي فِي مَوَاطِنِهِمْ دُمُوعِي
وَأَسْأَلُ مَنْ قَضَى بِالْبُعْدِ عَنْهُمْ
يَمُنُّ عَلَيَّ يَوْمًا بِالرُّجُوعِ
ثم إن نور الدين نهض من وقته وساعته، وقفل باب الدار وخرج يجري إلى البحر، وصار يتأمَّل
في موضع المركب الذي سافر بمريم، ثم بكى وصعَّد الزَّفَرات، وأنشد هذه الأبيات:
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَيْسَ لِي عَنْكُمُ غِنًى
وَإِنِّي عَلَى الْحَالَيْنِ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ
أَحِنُّ إِلَيْكُمْ كُلَّ وَقْتٍ وَسَاعَةٍ
وَأَشْتَاقُكُمْ شَوْقَ الْعِطَاشِ إِلَى الْوَرْدِ
وَعِنْدَكُمُ سَمْعِي وَلُبِّي وَنَاظِرِي
وَتَذْكَارُكُمْ عِنْدِي أَلَذُّ مِنَ الشَّهْدِ
فَيَا أَسَفِي لَمَّا اسْتَقَلَّتْ رِكَابُكُمْ
وَحَادَتْ بِكُمْ تِلْكَ السَّفِينَةُ عَنْ قَصْدِي
ثم إن نور الدين ناح وبكى، وأَنَّ وحَنَّ واشتكى،
ونادى: يا مريم، يا مريم، هل كانت رؤيتي لك في المنام أم أضغاث أحلام؟ ولمَّا زادت به
الحسرات أنشد هذه الأبيات:
فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْبُعْدِ عَيْنِي تَرَاكُمُ
وَأَسْمَعُ مِنْ قُرْبِ الدِّيَارِ نِدَاكُمُ
وَتَجْمَعُنَا الدَّارُ الَّتِي أَنِسَتْ بِنَا
وَأُعْطَى مُنَى قَلْبِي وَأَنْتُمْ مُنَاكُمُ
خُذُوا لِعِظَامِي أَيْنَ سِرْتُمْ مَحَفَّةً
وَأَيْنَ حَلَلْتُمْ فَادْفُنُونِي حِذَاكُمُ
فَلَوْ كَانَ لِي قَلْبَانِ عِشْتُ بِوَاحِدٍ
وَأَتْرُكُ قَلْبًا مُغْرَمًا فِي هَوَاكُمُ
وَلَوْ قِيلَ لِي مَاذَا عَلَى اللهِ تَشْتَهِي
لَقُلْتُ رِضَا الرَّحْمَنِ ثُمَّ رِضَاكُمُ
فبينما نور الدين على هذه الحالة يبكي ويقول: يا مريم، يا مريم. وإذا بشيخٍ قد طلع
من
مركب وأقبَلَ عليه، فرآه يبكي وينشد هذين البيتين:
يَا مَرْيَمَ الْحُسْنِ عُوْدِي إِنَّ لِي مُقَلًا
سَحَائِبُ الْمُزْنِ تَجْرِي مِنْ سَوَاكِبِهَا
وَاسْتَخْبِرِي عُذَّلِي دُونَ الْأَنَامِ تَرِي
أَجْفَانَ عَيْنَيَّ غَرْقَى فِي كَوَاكِبِهَا
فقال له الشيخ: يا ولدي، كأنك تبكي على الجارية التي سافرَتِ البارحةَ مع الإفرنجي.
فلما
سمع نور الدين كلامَ الشيخ خرَّ مغشيًّا عليه ساعةً زمانية، ثم أفاق وبكى بكاءً شديدًا
ما
عليه من مزيد، وأنشد هذه الأبيات:
فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْبُعْدِ يُرْجَى وِصَالُهَا
وَلَذَّةُ أُنْسِي قَدْ يَعُودُ كَمَالُهَا
فَإِنَّ بِقَلْبِي لَوْعَةً وَصَبَابَةً
وَيُزْعِجُنِي قِيلُ الْوُشَاةِ وَقَالُهَا
أُقِيمُ نَهَارِي بَاهِتًا مُتَحَيِّرًا
وَفِي اللَّيْلِ أَرْجُو أَنْ يَزُورَ خَيَالُهَا
فَوَاللهِ لَا أَسْلُو عَنِ الْعِشْقِ سَاعَةً
وَكَيْفَ وَنَفْسِي فِي الْوُشَاةِ مُلَالُهَا
مُنَعَّمَةُ الْأَطْرَافِ مَهْضُومَةُ الْحَشَا
لَهَا مُقْلَةٌ فِي الْقَلْبِ مِنِّي نِبَالُهَا
يُحَاكِي قَضِيبَ الْبَانِ فِي الرَّوْضِ قَدُّهَا
وَيُخْجِلُ ضَوْءَ الشَّمْسِ حُسْنًا جَمَالُهَا
وَلَوْلَا أَخَافُ اللهَ جَلَّ جَلَالُهُ
لَقُلْتُ لِذَاتِ الْحُسْنِ: جَلَّ جَلَالُهَا
فلما نظر ذلك الشيخ إلى نور الدين ورأى جماله وقَدَّه واعتداله، وفصاحةَ لسانه ولطفَ
افتتانه، حزن قلبه عليه ورَقَّ لحاله، وكان ذلك الشيخ رئيسَ مركبٍ مسافرة إلى مدينة تلك
الجارية، وفيها مائة تاجر من تجَّار المسلمين المؤمنين؛ فقال له: اصبر ولا يكون إلا خير،
فإن شاء الله سبحانه وتعالى أوصلك إليها. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.